إلى من يجب أن يهمهم الأمر
في نهاية العقد الماضي، كانت أعداد المتقدمين إلى أكاديميات الفنون في العاصمة، تفوق ما يمكن لتلك الأكاديميات أن تستوعبه بمئات المرات، فمن بين ما يقارب الـ 3000 متقدم لفحص القبول في المعهد العالي للفنون المسرحية في إحدى السنوات، سواء إلى قسم التمثيل – الأكثر إقبالا – أو الدراسات المسرحية أو الموسيقى – الأقسام الرئيسية التي كانت قائمة حينها – ومن جميع أنحاء الجغرافيا السورية، سينتسب للمعهد ما يقارب الـ 60 طالبا، نصفهم تقريبا من أبناء الفنانين وأصحاب “الواسطات الثقيلة”!
الرقم السابق يمكن مضاعفته لثلاث مرات بالنسبة للمتقدمين للدراسة في كلية الفنون الجميلة، وهذا يؤكد أن السوريين عموما يحبون الفنون، ويسعون لدراستها والاشتغال بها، حتى أن الكثير من الطلاب، الذين قدموا للعاصمة لدراسة الفنون، جاؤوا من قرى صغيرة تقع على مسافة سفر أكثر من 15 ساعة عن دمشق، هذا الحال تكرر كل عام مع تلك الأكاديميات مع تزايد مستمر لأعداد الطلاب القادمين من المحافظات السورية البعيدة، الراغبين بدخولها والدراسة فيها، فهي مجانية لدينا، ومن المعروف كم هي مكلفة دراسة الفنون في الأكاديميات الخاصة وفي مختلف بلدان العالم.
بقي الحال على ما هو عليه حتى ما قبل الحرب، دون وضع حلول للموضوع، كإنشاء أكاديمية للفنون عموما في ادلب مثلا، أو في ريف حلب، أو درعا، لكن هذا لم يحدث، فالإهمال والتهميش الواقع في العديد من مناطق الريف السوري، لم يقتصر فقط على اللوجستيات الأساسية والضرورية، بل إن أخطر أنواع التهميش الذي أصاب تلك الجغرافيا السورية الحبيبة بمختلف بيئاتها، هو التهميش الثقافي بمختلف مذاهبه، خلا عن بعض المتفرقات التي لم تستطع أن تصنع حركة ثقافية لها أسسها المتينة، والتي يمكن البناء عليها لصياغة حركة ثقافية تراكمية منتجة، بل عبارة عن بعض الفعاليات في المراكز الثقافية شبه المهجورة، والتي تأتي من باب “رفع العتب” ومن أبواب أخرى أيضا معروفة للقاصي والداني.
هذا الحال ليس منذ بضعة سنين أو بسبب الحرب، بل منذ عقود طويلة، بعد أن هيمنت العاصمة على الحياة الثقافية في البلاد، سواء في المدن أو الأرياف. صحيح أنها من جهة الكم أكثر حضورا في بعض المحافظات الكبرى “حمص، حلب، اللاذقية” من أريافها، وبمرات عديدة، لكن حضورها جاء خجولا، عشوائيا، انتقائيا وغير فعّال، رغم أن معظم المناطق السورية، حتى الصغيرة جغرافيا منها، يوجد فيها مركز ثقافي مناط به النهضة بالحركة الثقافية والفنية، لكن تلك المراكز لم تستطع أن تشكل حاضنة ثقافية عامة حيث هي، ولم تعمل على تشكيل أساس لوعي ثقافي منوع متين، وهذا يعني أنها لم تعمل كما خُطط لها، على أن تكون من أهم الروافد للحياة الثقافية في البلاد، فعليها تقع، أينما كانت، مسؤولية تبني وتأهيل أصحاب المواهب الحقيقية في المناطق البعيدة عن المركز، إن كان في الكتابة بأنواعها أو في باقي الفنون، كالتمثيل والعزف، الغناء والرقص، الرسم والنحت وغيرها، لكنها فشلت في لعب هذا الدور الجسيم، فقد أصابها ما أصاب العديد من المؤسسات الرسمية وما يتبع إليها من تكلس ومحسوبية وفساد ثقافي وغيره.
يمكن أن نضرب المثال التالي لمقاربة هذه الهيمنة الثقافية وأثرها الخطير، الذي تجلى مع بداية الحرب على البلاد، في هجر الكثير من الشبان لمختلف النواحي الثقافية، وتوجههم إلى جهة مغايرة تماما، جعلتهم يُكفرّون حتى الضحك، ففي وقت لا توجد في العديد من المحافظات السورية دار سينما صالحة لتقديم العروض السينمائية، أو مسارح مهيأة من الناحية التقنية أو الفنية، وعدم وجود صروح علمية مختصة بهذا الشأن، تنتشر في العاصمة وعلى مساحات متقاربة، فمثلا السالك اتستراد المزة باتجاه ساحة الأمويين، سيشاهد جامعة دمشق الشهيرة بما قدمته من أعمال ثقافية وفنية مختلفة “مسرح، أماس شعرية وموسيقية، معارض كتب، حفلات تعارف ترفيهية، وغيرها”.. بعدها وعلى مسافة لا تزيد عن الـ 300 متر يقع مبنى الهيئة العامة للتلفزيون.. بنفس الاتجاه وعلى بعد أقل من 100 متر من مبنى التلفزيون، تنتصب دار الأوبرا بقاعاتها العديدة، يليها وعلى بُعد بضعة بلاطات المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي يضم العديد من أقسام الدراسات الفنية ومنها: مسرح، دراسات مسرحية، موسيقا، رقص، سينوغرافيا، وغيرها.. لن يضطر السالك للطريق ذاته أن يغير اتجاهه يمنة أو يسارا، فأمامه أرض المعارض، التي كانت تُقام عليها العديد من الفعاليات الفنية والثقافية الهامة، وهي ملاصقة لجدار المعهد العالي.. بعدها يجيء المتحف الوطني، ثم المتحف الحربي سابقا، سينما دمشق وعلى يسارها سينما أوغاريت، على يمينها سينما راميتا، سينما الزهراء، سينما السفير، مسرح الحمرا، مسرح القباني، مديرية المسارح والموسيقا، المؤسسة العامة للسينما، وزارة الثقافة، وغيرها، هذا كله ضمن دائرة قطرها لا يتجاوز ال 3 كلم مربع، هذا من الناحية اللوجستية، من الناحية التخطيطية لأشغال الثقافة في البلاد، جاءت العديد من الخطط الثقافية اعتباطية، فعاليات فنية وأدبية وموسيقية لجمهور محدود، أسماء مكررة حدّ السأم حتى في الفعاليات المقامة في العاصمة، تغييب صاحب الموهبة الخلاقة لصالح من لا يملك من مقوماتها شيئا إلا رغبته خوض هذا الغمار.
هذا بعض من الخلل الجسيم الذي لم يتم التعامل معه بمسؤولية وجدية، وكان له ما كان من نتائج كارثية على مستوى بناء الوعي العام لمختلف السوريين أينما كانوا في البلاد، والمؤسسات الرسمية ليست مدعوة، بل من الضروري والملح الذي لا يحتمل التأجيل، أن تعمل على تغيير هذا الواقع البائس، ثمة أجيال تفتحت زهرة وعيها في أتون الدم والنار والبارود، الخوف، الجوع، الحزن، العزلة، الألم، الإحباط، وهؤلاء إن لم يؤخذ بيدهم من قبل مؤسسات الدولة في مختلف المناحي وأهمها المنحى الثقافي بأنواعه، والذي يُساهم بفعالية في بناء الوعي الفردي والعام، فثمة من هو جاهز لهذا، بل وعمل ويعمل عليه!
تمّام علي بركات