حديث الساحة
د. نضال الصالح
الساحة التي تتوسط حلب أو تكاد، والتي تلتقي عندها الحلبان: القديمة التي يعود تاريخها إلى اثني عشر ألف سنة قبل الميلاد، والحديثة التي بدأت بالنهوض مطلع القرن العشرين من الألفية الصريعة. ساحة سعد الله الجابري، المتاخمة للحديقة العامة التي شُيدت بقرار استملاكٍ من مجلس بلدية حلب الذي كان رئيسه مجد الدين الجابري وكان قال: “هذه المنطقة ملك حلب، أخذها جدّي نافع باشا هدية من السلطان العثماني، وأنا أعيدها إلى أهل حلب”. الساحة التي تتوسطها منحوتة بديعة بإزميل الفنان الحلبي عبد الرحمن مؤقت وروحه باسم نصب الشهداء. الساحة التي تقلّبت عليها أحوال وأحوال، وكانت شاهدة على غير حال وحال منذ كانت إلى الآن.
وراء زجاج مقهى مطلّ على الساحة كنتُ أستعيد نحو ثماني سنوات مضت، بينما تتوضأ عيناي بالمارة المسرع كلّ منهم إلى شأنه في الصباح، وتركض وراء السيارات الراكضة بدورها إلى شؤون تخصّ سائقيها، وتعود إلى مفردات المكان وما حوله، ولاسيما الشارع المستقيم المنهمر من أعلى باب النصر نحو الجميلية، وذاك الذي يؤدي إلى محطة بغداد، والثالث الذي ينعطف يساراً نحو القصر البلدي فباب الجنان ثم يصعد نحو القلعة الرابضة على التلّ الذي شُيّدت فوقه في الألفية الثالثة قبل الميلاد. أستعيد التفجير الأول أمام الفندق السياحي الذي أتى على الفندق أو يكاد، فمقهى قصر جحا الذي أحاله تفجير آخر إلى أطلال مكان كان يصخب بالأدباء والمثقفين والفنانين الذين تفرّق أكثرهم في غير مدينة عربية وتركية وأوروبية وأمريكية. أرثي مَن يرفل الآن منهم بحرير الفنادق الفخمة وبالأرصدة المتورمة من دماء الناس وبيوتهم بعد أن كان أكثرهم يرفل بحرير النعميات على حساب عرق الآخرين وجباههم الشرف، ومن أعطيات التقارير التي كان بعضهم يكتبها بحقّ بعضهم الآخر، ومن تسولهم فتاتاً هنا وآخر هناك. أستعيد ملامح أولئك الذين صفقوا للموت والقتل والخراب، والذين كانوا حصلوا على شهاداتهم العالية بحفنة من المال، أو من جامعات غُفل، ولا يميز أكثرهم همزة القطع من همزة الوصل، فأولئك الذين تأسلموا بعد أن كانوا يثخنون خمّارة حنا كعدة، والعندليب، وغيرهما من حانات المدينة، بالخوار، فركّاب الأمواج المتقافزين بين الحبال، فمن خندق إلى آخر بحثاً عن مقعد أو موطئ قدم في قطار الربيع الزيف، فتلك الذئاب التي كانت تنهش لحم البلاد والعباد من دون أن يرفّ لها جفن، ثم، ما بين دم ودم زعمت نفسها حملان باحثة عن مزيد من العشب باسم الحرية، وعن مزيد من الأرصدة الدنس باسم الديمقراطية، وعن مزيد من الدم باسم الاختلاف، فأولئك الذين لمّا يزالوا بيننا ويلوّثون الحياة بثقافة الموقف الوسط، عُبّاد شعرة معاوية بن أبي سفيان التي كان قال بها قبل نحو ألف من السنين.
أستعيد، وأستعيد، فتغصّ روحي بالدمع، وما يكاد الأخير يجهر بنفسه في عيني، حتى يتهاطل من غير جهة في الساحة صوت لا يسمعه سواي: زائفون وأنا الحقيقة.. عابرون وأنا الخلود.