“فاتح المدرس بين اللون والحرف.. عالم من التشكيل الخلاق”
فاتح المدرس لم يكن فناناً تشكيلياً سورياً فحسب، بل كان متفرداً ورائداً للحداثة الفنية، وامتلك قدرة إبداعية، فكان بحق شاهداً حقيقياً على عصره، على عكس تصورات مجتمعه عبر فلسفة جمالية رسمتها ريشته محوّلة عواطفه إلى ألوان ظهرت جلية في أسلوبه المختلف في بناء اللوحة، ما منحها خصوصية عجز الكثيرون عن تفسيرها، كما أنه برع في مجالات مختلفة ظهرت في نتاجاته الغنية التي تناولتها ندوة قامات في الفكر والأدب والحياة التي أقيمت في مكتبة الأسد الوطنية، وأدارها د. إسماعيل مروة، وحملت عنوان: “فاتح المدرس بين اللون والحرف.. عالم من التشكيل الخلاق”.
التخلقات التشكيلية
بدأ الندوة د. عبد الكريم الفرج متحدثاً عن التخلقات التشكيلية عند فاتح المدرس قائلاً: أيقن المدرس بأن الفنون الجميلة والتعايش في ظلال مفاهيمها إحدى الطرق العظيمة لإبعاد الكوارث اللاأخلاقية عن مسيرة الخير والجمال والديمقراطية، ما يطرح سؤالاً في الأذهان: ماذا وضع فاتح في أعماق أعماله الإبداعية التصويرية من تخلقات ورموز؟ ليكون الجواب بأن الأعمال كانت من الوضوح بحيث تجعل المتلقي نفسه مشاركاَ في اكتشاف مسيرة الخير الإنساني الذي سلكه فاتح، فهو لم يخف في أعماق أعماله الفنية الصورة الرمزية التي تشير منذ الرؤية الأولى إلى ضرورة احترام الوجود الإنساني، متابعاً: كانت حقيقة الانتماء الرمزية مضمرة في كل حركة من حركات فرشاة ألوانه، وفي كل بقعة لونية، ومع انعطاف كل خط في لوحته الفنية، وعندما يركز على عمق الرمزية التي تحرك لواعج المتلقي تفيض عواطفه الوجدانية وخيالاته المندفعة فتوقظ نسائم الحرية الإنسانية المتوقدة، فقد أيقظت لوحاته التصويرية أحلاماً كانت تراوده، واستطاع أن يخلق بمصداقيته كل أحاسيس الجمال المنبعث من عشقه للأرض التي عاش فيها، وكانت ثقافة الانتماء في كل مسيرة حياته هي عنوانه ومنبع ثقافته في العطاء المرتبط بأزلية تكوينه، لافتاً إلى أن المدرس استطاع بمجمل معالجاته لعمله التصويري أن يلخص لنا رموزه المنتشرة في أرجاء اللوحة، ومن أهم رموزه كانت صورة المرأة التي قلما تفارق لوحاته الفنية، فهي ملهمة الإبداع، وشكّلت أهم منابعه التي تسكنه، كما أحب فاتح الأرض الممتدة أمام بصره، فهو يحضر بواقعه البسيط، ولم يرسم لوحات بانورامية واسعة المساحة، لأنه رأى أن الأحداث المباشرة هي التي تكوّن مفردات شعوره فيسرع لتدوينه بألوان فرشاته.
وركّز الناقد التشكيلي سعد القاسم على السيرة الذاتية والإبداعية لفاتح المدرس، لافتاً إلى أنه ربما لم يرمز فرد لحياة إبداعية بكاملها كما فعل الفنان المدرس بالنسبة للحركة التشكيلية، فقد استطاع بحكم وزنه الثقافي أن يؤكد أهمية الفن المعاصر والحداثة في الفن التشكيلي، رغم الأمية التي عاشها المجتمع منذ بداية تجربة فاتح وحتى عقود قريبة، وقبول المجتمع لتجربته المتقدمة لم يكن نتيجة إدراكه لها بقدر ما كان بفعل الوزن الثقافي الذي كان يمثّله فاتح المدرس، وهو يتجلى في تجربته التشكيلية وغناه المعرفي وتنوع اهتماماته وتعددها، ثم أشار القاسم إلى أن المدرس مولود في حلب عام 1922، وشهد باكراً مقتل أبيه، وعاش مع أمه التي أعطته كل الاهتمام والرعاية، منوّهاً أن عام 1952هو العام الأهم في تجربة فاتح، ففيه شارك في معرضين: أحدهما في الولايات المتحدة، والثاني في السويد، إلا أن الحدث الأهم كان نيل لوحته “كفر جنة” جائزة المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق، وهي اللوحة التي اعتبرت فاتحة اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، مبيّناً أن أهمية فاتح تتجلى في إبداعاته التشكيلية، وريادته كفنان معلّم لمفاهيم الحداثة، ودوره المؤثر في الحياة الثقافية.
غنى وإبداع
ختام الندوة كان مع الحكاية القصصية والإبداعية ومسيرة الألم عند فاتح المدرس، قدمها د. إسماعيل مروة، موضحاً أن المدرس يعد من المبدعين العرب القلة الذين برعوا في أكثر من ميدان، وفي كل ميدان إبداعي عمل فيه كان متميزاً وصاحب شخصية وهوية، كما أنه رحل ولم نشهد أي نوع من التقويم لتجاربه، وبيّن مروة أنه في مجال التشكيل استطاع بما ملك من مواهب ورؤى أن يكون متفرداً بين أبناء جيله، ومن يعرف الفنانين يعرف أن عدداً منهم استفادوا من تجربة فاتح، ولوحات فاتح هي اللوحات الأكثر تقليداً وتزويراً بين الفنانين التشكيليين، ثم سلّط مروة الضوء على الجوانب المختلفة لدى فاتح، وأولها الجانب الموسيقي، حيث يعرف المقربون من الوسط التشكيلي أن المدرس موسيقي من الدرجة الممتازة، فهو عازف ومؤلف موسيقي، وفي الجانب الشعري أصدر مجموعات شعرية، ولعل الجانب القصصي هو أهم جوانب إبداعاته، والأكثر تميزاً لعدة أسباب، فمجموعته “عود النعنع” رائدة بين مجموعة القصص السورية، حملت بصمته لوحده، وإمكانية اقتنائها متاحة أكثر من لوحاته، كما أن موضوعاتها مختلفة عن سواها، وتعنى بداخل الإنسان.
لوردا فوزي