ماذا وراء التهافت الفرنسي على ليبيا ؟
هيفاء علي
إن المتابع لتطورات الوضع في المشهد الليبي سرعان ما يتذكر الوضع في سورية والتدخلات الأجنبية السافرة في شؤونها الداخلية، والمحاولات اليائسة لتقسيمها، والتي باءت جميعها بالفشل. فبعد تسعة أعوام من عدم الاستقرار وتفتت الأراضي الليبية، قررت فرنسا التدخل في ليبيا لمواجهة التدخل التركي والقطري. يشهد السيناريو الليبي، مثل السيناريو السوري، على عدم قدرة فرنسا الحصول على موقف دبلوماسي واضح من جهة، ومن ناحية أخرى على ضعف المجتمع الدولي وفشله في احتواء العنف في المنطقة. وبشكل أدق عندما تمكنت حكومة الوفاق الوطني برئاسة السراج وبمساعدة من الأتراك، من التقدم نحو شرق البلاد عقب شن هجوم جديد للسيطرة على المدينتين الإستراتيجيتين سرت والجوفرة الواقعتين على أبواب الهلال النفطي.
وكانت فرنسا قد قامت بدور الوسيط عام 2017، عندما قامت بتنظيم مؤتمر عام بشأن ليبيا أدى إلى وقف إطلاق النار ودعم عملية السلام التي بدأت عبر وساطة غسان سلامة. كما نظمت فرنسا اجتماعاً آخر حول ليبيا في 29 أيار المنصرم أسفر الاجتماع الذي استمر يوماً واحداً عن إعلان من عشر نقاط، وقع عليه السراج وحفتر، ووصف بأنه اتفاق تاريخي، تعهدا فيه بوقف إطلاق النار وتنظيم انتخابات وطنية “في أقرب وقت ممكن”.
وبالنظر إلى الماضي، فإن هذا الاجتماع، الذي حضره أيضاً غسان سلامة، المبعوث الخاص للأمم المتحدة، لم يؤد إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع. من الناحية الإستراتيجية، استقبلت باريس استعادة الجنوب من قبل قائد عسكري بشكل إيجابي، وتشارك عسكرياً في منطقة الساحل. وكجزء من مكافحتها للإرهاب، فإن هذا التدخل الفرنسي، المعروف باسم عملية “برخان”، في منطقة الساحل والصحراء غير المستقرة هو نتيجة تقارب في المصالح التي كانت في آن واحد سياسية واقتصادية وعسكرية- صناعية.
بالنسبة لأوروبا، تغرد فرنسا خارج السرب، حيث ينقسم الاتحاد الأوروبي في هذا الصدد بين المملكة المتحدة واليونان وإيطاليا، من جهة، التي تُظهر دعماً دبلوماسياً علنياً لحكومة الوفاق الوطني دون أن توحي بوجودها العسكري على الأرض، ومن جهة أخرى فرنسا التي تدعم الجيش الوطني. وبهذا المعنى، حاولت باريس ألا تتعدى على منطقة النفوذ السياسي والاقتصادي لإيطاليا، القوة الاستعمارية السابقة في ليبيا، واللاعب الاقتصادي الأجنبي الرئيسي في قطاع النفط الليبي، إضافةً إلى اهتمامها بقضية تدفق اللاجئين والمهاجرين عبر البحر المتوسط.
ويلفت مراقبون إلى أن السلبية التي تظهرها باريس حالياً تجاه ليبيا يمكن أن تؤثر على مشاريعها السياسية والاقتصادية في المنطقة. لدى فرنسا كل المصلحة في تعزيز الأمن في منطقة تهدد فيها الجماعات الإرهابية الحكومات الهشة في النيجر وتشاد ومالي، الحلفاء الحقيقيون لفرنسا في أفريقيا، المدعومة في سياق عملية “برخان”. بالإضافة إلى رغبتها في تعزيز الوجود الاقتصادي الفرنسي في ليبيا، ولا سيما من خلال الاستحواذ على “توتال” في صناعة النفط الليبية.
في هذه الأثناء بدت الولايات المتحدة وكأنها تضع نفسها تدريجياً لصالح حكومة الوحدة الوطنية، ولذلك يتعين على فرنسا أن تتبنى سياسة واضحة إذا كانت تريد احترام التزاماتها في المجالين الأمني والاقتصادي.
لكن مهما كانت الحالة، يبقى الأمر الأكثر صعوبة بالنسبة لليبيا أي توزيع عائدات المحروقات، وتفكيك ونزع سلاح الميليشيات، وكذلك اندماجها المحتمل في جيش ليبي موحد مستقبلي. أثارت هذه المبادرة الفرنسية غضباً وانتقادات من إيطاليا، التي اعتبرتها محاولة من فرنسا للحصول على مكاسب إضافية من خلال حل الصراع الليبي.
الشكوك لا تزال مهمة، خاصة من الجانب الإيطالي، حول الدوافع الحقيقية الكامنة وراء الدور الرائد الجديد الذي ترغب فرنسا بلعبه في ليبيا، فبالنسبة للسياسيين الإيطاليين، يُنظر إلى التزام فرنسا السياسي المتزايد تجاه ليبيا، على أعلى مستوى، على أنه تهميش لإيطاليا ويعرض مصالحها في ليبيا للخطر، ويركز بشكل أساسي على احتواء تدفقات المهاجرين الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط وإمدادات الغاز الليبي، بالإضافة إلى المزايا التجارية الأخرى للشركات الإيطالية. لكن بالنسبة لفرنسا، فإن أولويات ليبيا الرئيسية هي محاربة الإرهابيين والتهديد الإرهابي بدلاً من الهجرة، الأمر الذي لا يؤثر على فرنسا بشكل مباشر مثل إيطاليا.
تسعى فرنسا لتحقيق مكاسب تجارية في ليبيا، ففي الشهر الماضي عززت شركة “توتال” الفرنسية تواجدها بشكل كبير في سوق الطاقة الليبي، حيث استحوذت على 16.33٪ من أسهم امتيازات “الواحة لشركة ماراثون أويل” الأمريكية مقابل 450 مليون دولار. كما يجب أن تسمح الاتفاقية لشركة “توتال” بالوصول إلى احتياطيات النفط الرئيسية مع إنتاج فوري وإمكانات استكشاف كبيرة.
من الناحية التاريخية، لم تكن ليبيا مستعمرة فرنسية مثل تونس والجزائر المجاورتين، لكن فرنسا أدارت لفترة وجيزة (1944-1951) منطقة فزان (في جنوب ليبيا) بعد هزيمة إيطاليا خلال الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين حافظت فرنسا على اتصالات وثيقة مع القوات القبلية المحلية في فزان، وهي منطقة يحتمل أن تكون غنية باحتياطيات النفط والغاز والمعادن، بما في ذلك اليورانيوم. تتمثل الأهمية الجيوسياسية لمنطقة “فزان” في أنها تقدم لفرنسا امتداداً جغرافياً طبيعياً لوجودها وتأثيرها في البلدان المجاورة والقريبة، مثل تشاد والنيجر ومالي، حيث تتمتع فرنسا بحضور عسكري واقتصادي وسياسي قوي .