من دفتر الدهشة و النور
درجت ومنذ سنوات على ممارسة طقس جد هام في حياتي اليومية ألا وهو التأمل، والذي اعتبره أرسطو في “فلسفة الأخلاق” أنه أعلى صورة للنشاط العقلي، ففي كلّ يوم، وقت المغرب لابدّ لي من ممارسة هذا الطقس المهيب، لدرجة أصبح من مفرداتي اليومية، وكما قلنا في غير موضع أن تأمل مفردات الله المسطورة في آفاقه لا تقل أهمية عن تأمل مفرداته المسطورة في كتبه، فتأمل شروق الشمس وحبوّها نحونا، أو الإصغاء لهذا السكون الكوني المهيب في ثواني الغلس الأولى..الإصغاء لصوت الريح وما تتركه بين غابات السنديان من قصائد وكرنفالات شعر وأناشيد، أو التفكّر في ظاهرة البرق، الرعد، المطر، كل هذا لا يقل أهمية وإغناء للروح والقلب والعقل عن قراءة مجلدات لرموز الفكر الأدب والدين.
أعود لما درجت عليه من تأمل.. بهاء ما حولي بدءاً من مراقبة – وبكل رهبة وهيبة – خلع الليل أثواب الحداد رويدا رويدا على إيقاع شهيق الأرض وزفيرها وارتداء أثواب الحياة وانتهاء بنثر الله جلّ وعظم شانه بوسع يده بزار السماء من نجوم وقمر طاعن بالحنين مروراً بأشجار الدار (دالية العنب – شجرة التين – الرمان – اللوز والدراق وقت الزهر..الخ ) وفي كثير من الأحيان كنت أدهش وأعجب وأنا أنثر بعض حبات قمح هنا أو هناك مثلاً، أو بذرة أي نوع من المزروعات.. كنت أرقبها بعد أيام كيف تنبت، تنمو وتنمو ..تزهر… تثمر.. تصفّر أوراقها، وتيبس..تيبس..تيبس.. يا الله كم تشبهنا أو كم نشبهها تماما ولكن أكثر الناس لا يتفكرون، كان يخيفني ويرعبني، يرجف قلبي حين تسّاقط ورقة من شجر وقت خريف، فأحسب روحي تيبست، تسقط، يغشى عليّ.
وكنت في كثير من الأيام أخرج مساءً إلى حقول القمح قبيل الحصاد وما تتركه أو تعكسه من ضياء فاحسب أنها أرض النور، أو تأمل حقول القطن حين تفتح (شتلاته) وما يتركه هذا البياض الكثيف المنبثق من الاخضرار اليانع في النفس.
كنت وكنت.. كنت أرقب ذاك الفلاح وهو يحرث بالمحراث الحقل فيدهشني لون التراب الذي يخلفه المحراث بعيد عبوره الأرض.. أقترب وأقترب تسبقني أناملي.. أنحني، أحمل قبضة منه ياالله كم هو دافئ وحنون، كم وكم يزودني بطاقة روحية، اشتم عبقه فأرتعش، أقف كناسك قرب صومعة وأطلق عيناي للسماء فأرى غمامَ الخريف المسافر وسربَ حمام قريتنا.. انظر حولي لا احد ولكن ثمة ألف صوت بداخلي، وضعت حفنة التراب في جيبي ومضيت تأخذني الرجفة من نسمة تشرينية باذخة بالخير والقشعريرة..
أما في هذه الأيام يروق لي وبكل الأوقات لاسيما ساعات الصباح الأولى ووقت المغرب أن أقف قبالة شجرة الزيتون الكبيرة في أرض الدار، أتأملها فتشفُّ روحي، أمرّرُ أناملي بكل قداسة على حبّاتها وأوراقها فتسري بجسدي قشعريرة.. رجفة حنونة أخّاذة ..ارتعش واحسب أنني قبالة وليّ أو نبيٍّ من أنبياء الله.
شجرة زيتون طافحة بالنور، بالشعر، بأسماء الله الحسنى، حتى أتأملها تسبقني أناملي تجاهها، أمشطها كعاشق كلف بضفيرة من يُحب.. ترتجف أناملي كراهب في معبد عتيق ألف تأمل وجه يسوعه المصلوب فيمسح كل مساء أقدامه بالزيت والريحان..
أتأملها.. أتحسس جذعها فأرحل إلى كواكب من نور.. إلى عوالم ما خلف السور، كيف والتاريخ بأزمنته أنبأنا أن كل الرسل والأنبياء والقديسين والمفكرين والمصلحين والصوفيين والشعراء و… غيرهم من المبدعين وقبل أن يتنزّل عليهم الوحي الربّاني عاشوا حالات تأمل وعزلة في كنه ذواتهم.. قلوبهم ..أرواحهم فتسفُّ وترقُّ.
(شفَّ الزجاجُ وراقت الخمرُ… فتشابها وتشاكلَ الأمر) فينتجون نصوصاً من فيوضات الإله، ويؤسسون نظماً مجتمعية وسيراً ذاتية هائلةً وديانات وعقائد واديولوجيات و..
مرّوا ومازالوا يمرّون بمراحل تأمل الموجودات، الخلق، الموت، البراري، وتلك الأمداء والأنداء، هول الجسد.والإصغاء الحنون لوجيب القلب والروح..فيأتي صوت حنون وشفيف: انظر.. تأمل.. تفكّر.. إن ما تفور به شجرة الزيتون من نور هي ما فارت وتفور به روحك وقلبك.. قم واصغِ لسقسقة ماء قلبك وافرح.. ابتهج..
عباس حيروقة