الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

السيد: تبجح!؟

د. نهلة عيسى

أنا أمام التلفاز في حالة بلاهة لا سابق لها في حياتي، أحدق في صور حقول القمح المحترقة في الحسكة، محاولة تمييز المكان وسكانه علني ألمح أحداً من صحبي هناك، لأنهي البلاهة بالبكاء، لكن فبل أن أتعرف على أحد، رغم يقيني أنني أعرف هناك كل أحد، تتبدل صور التلفاز، فتستولي حسرة خائبة على قلبي، وغضب على وسائل الإعلام التي تتدفق بأخبار السلع الكمالية، وشرح محاسن وضرورة النظارات الشمسية للصيف، بينما نحن نحترق بالخوف من أن يكون صيفنا بلا خبز!!

أنا أمام التلفاز، وغيظي يتصاعد من أنهم يبشروننا بأن للسيد “كورونا” فوائد جمة على البيئة!؟ فنسبة صيد الحيتان قد انخفضت، والحيوانات البرية تجول في المدن المقفرة، وطبقة الأوزون قد التأم جرحها، و”ديور وفرساتشي وزارا، وباقي دور الموضة في العالم” يتحضرون لعروض أزياء الخريف (وأرى كل الثياب ملطخة بالدم)، وتحقيق مطول عن أبطال كرة القدم في الحجر الصحي، ورأي المدرب والطبيب النفسي، ومدير النادي، والمشجعين، والجيران والسياح، ورئيس البلدية!؟ وأنا أراقب ذلك كله، بانتظار أن يأتي خبر عن تضامن أحد، أي أحد في الكون، مع جوعنا، وليس هناك من خبر!؟ والسؤال في رأسي جبلٌ من إشارات الاستفهام: ما الذي يجعل معظم العالم يحجم عن التورط متلبساً بقول الحق؟ تراه الخوف من اللحاق بنا، أم أنه اليأس، الضجر، اللامبالاة، الشماتة؟ أم أننا ببساطة نعيش في زمن “التبجح”، حيث أحزاننا تملأ البحر، ولا وزير للبحر!؟

أمام التلفاز، وعيني الشديدة الانتقائية تغمض أجفانها عن الحسد والمقارنة بيننا وبين الآخرين، وكل حاضر يذكرني بغائب، وكل رفاهية على التلفاز تذكرني بفقر، وكل استرخاء يعيدني للتوتر، وكل حياة بسيطة هادئة بعيدة عن التعقيد والعنف، تشعل في داخلي يومياتنا المتأججة بالدراما، فتختلط مشاعري، تراني أغار من الذين يزرعون الزنبق بينما قمحنا يحرق، أم أنني مجرد إنسانة عادية تتمنى لو كان لديها وقت لتفرح بالطقوس الانتخابية المتجلية في كل ما حولها، وبالنزعة الديمقراطية المهيمنة وهماً في الأجواء، وترغب في أن تدلي بصوتها في صناديق الاقتراع، ولو أنني أعرف سلفاً – إذا حدث وذهبت إلى الاقتراع – سأكتب على ورقتي البيضاء اسم مرشحي الأوحد: كرامة السوريين.

أمام التلفاز، وكل ما فيه، تبجح ومبالغة ووباء يشبه كورونا في عدواه: الرياضة، الرقص، الغناء، العري، التطرف، الحرب، الغنى، الجوع، التدين، الكفر.. لا شيء على الإطلاق طبيعياً، عيون الناس تراقب الأذرع والسيقان والبدلات والبارفانات بدلاً من المذابح، وصوت يعلو في داخلك: أريد أن أعيش في وطن معافى، يتاح فيه لي ولغيري أن نكون فيه بسيطين، عاديين، اهتماماتنا فيه تافهة أو راقية، وطن نختلف فيه على الفرق الرياضية، و”ميسي” و”رونالدو”، والمسلسلات التلفزيونية، ومهرجانات الغناء، ومعارض الكتاب، وأنواع الجبنة، ومحلات الكباب، فقد تعبنا من حمل القضايا المصيرية، والابتسامات صارت ذكريات، والملل صار طموحاً!!

أمام التلفاز، وكل ما فيه ينكأ الجراح، ويجعلك تفقد “روحك المطاطة”، فتحاول التحديق بأشياء مشرقة حولك، فتكتشف أنك تعيش في عمق التبجح، وهاوية التنظير! حيث الجميع يتحدثون عن الجميع، والجميع يتهمون الجميع، ويحاولون تفصيل الواقع على قياس النظريات الجاهزة، والخطابات والشعارات، وحيث الكثير منا يتحدث عن الوطن وعينه على المطار، ولا عيب في ذلك، فمن حق الجميع البحث عن عيش أفضل، شرط أن لا ينبش في جروحنا، وأن لا يجعل منها مبرراً أخلاقيا غير أخلاقي لمغادرتنا، بدل أن يغادر بهدوء، ويتركنا للتفكير كيف يمكن لنا أن نغادر عالم تبجح إلى عالم الحقيقة، حيث ليس أمامنا – وأعني بأمامنا.. كلنا، رسميين وشعبيين – خيارات كثيرة، وحيث لا تنفع الرشوة لتجاوز حالنا الذي أصبح عصياً على الترقيع، وبات بحاجة إلى “توقيع” يجعل الفاهم المهموم في موقع القرار، ويرحل بالمتبجحين إلى أقبية النسيان، فقد شبعنا تنظيراً، وصار لزاماً أن نشبع بحق!؟