دراساتصحيفة البعث

ألمانيا تظهر كرامة وطنية و تعاقب الولايات المتحدة

هيفاء علي

قررت السلطات الألمانية فرض عقوبات على الولايات المتحدة الأمريكية، وستكون إحدى النقاط المحتملة إغلاق المنشآت العسكرية الألمانية للقوات الأمريكية، بالإضافة إلى طرد الجيش الأمريكي بأكمله من أراضي الدولة. والسبب هو تصرفات واشنطن للتدخل في الشؤون الداخلية لألمانيا والتهديدات والانسحاب الجزئي للوحدة العسكرية من ذلك البلد.

لقد اكتشفت وسائل الإعلام الأمريكية شيئاً من شأنه أن يسبب صدمة في واشنطن أكثر من اكتشاف الحياة على كوكب المريخ أو حدائق الزهور في المشتري. تقول وكالة “بلومبرغ” أن النخبة السياسية الألمانية أظهرت كرامة وطنية، وكيف لا وهي الطريقة الوحيدة لتفسير الوثيقة التي أصدرتها الحكومة الألمانية والتي تحتوي على عقوبات ضد الولايات المتحدة، وهي العقوبات التي سيتم اعتمادها إذا قررت واشنطن إدخال جحيم العقوبات “ضد المشاركين في بناء نورد ستريم 2”.

في الوقت الراهن ، من الممكن فرض عقوبات متناظرة على الولايات المتحدة ، ومع ذلك، إذا استمرت واشنطن في تكثيف العقوبات، فيمكن أن ترد برلين ببساطة بطرد الجيش الأمريكي من البلاد، بما في ذلك الوصول إلى قواعدها العسكرية، حيث توجد ، حسب التقارير، أسلحة نووية أمريكية.

يلفت الخبراء الانتباه إلى حقيقة أن ألمانيا يمكن أن تضعف التأثير الأمريكي بشكل خطير للغاية في أوروبا، وبالنسبة لواشنطن يمكن أن يكون مثل هذا القرار ضربة حاسمة، لأنه على مدار عقود، كانت العلاقات الألمانية الأمريكية أكثر من وثيقة، ولم تتأثر بتغيير الرؤساء أو الأحزاب الحاكمة في البلدين.

لكن الوضع تغير، وباتت الروابط التي كانت من الثوابت السياسية، أكثر ضعفاً، إلى حد دفع كثيرين للتساؤل: هل وصلت العلاقات بين برلين وواشنطن إلى أسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية؟

لم يكن قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب 9500 من القوات الأمريكية المتمركزة في ألمانيا وليد الصدفة، بل هو حلقة في سلسلة من الأزمات التي تعيشها الإدارة الأمريكية. وفي هذا الإطار، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس مؤخراً: “نقدر التعاون الذي تم التوصل إليه مع القوات الأمريكية على مدى عشرات السنين. إنه في صالح كل من البلدين، إننا شركاء في التحالف عبر الأطلسي ولكنها علاقة معقدة”.

بصفة عامة، يعتبر التواجد العسكري الأمريكي في ألمانيا مهم للغاية من النواحي التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية حيث يتمركز الآلاف من الجنود الأمريكيين في الأراضي الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، كضمانة أمنية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، وحلقة وصل سياسية أساسية بين البلدين.  ووصف بن هودجز، الخبير العسكري الأمريكي، قرار سحب القوات الأمريكية بـ “الخطأ الفادح”. وكتب على صفحته بموقع “تويتر” إن القرار “مدفوع بدوافع سياسية بحتة، وليس نابعاً من أي تخطيط استراتيجي، كما أنه هدية لروسيا”.

تصاعد الخلاف بين برلين وواشنطن منذ تسلم ترامب السلطة في كانون الثاني 2017، على خلفية قضية أساسية، هي مساهمة الدول الأعضاء في ميزانية حلف شمال الأطلس، حيث ترى الولايات المتحدة أنها تساهم بالجانب الأكبر في هذه الميزانية، وتضغط على الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وألمانيا، لرفع إنفاقها إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2024، وهو هدف متفق عليه منذ سنوات في أروقة التحالف.

العام الماضي، شن غرينل المقرب من ترامب، هجوماً كبيراً على برلين، وقال إن “تقاعسها عن رفع ميزانيتها العسكرية إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، إهانة حقيقية لواشنطن”. وتابع: “كيف يدفع دافعو الضرائب الأمريكيون تكاليف انتشار القوات الأمريكية في ألمانيا بينما يستخدم الألمان فائضهم التجاري لأغراض محلية”.

“نورد ستريم” وإيران

لا يتوقف الأمر عند ميزانية “الناتو”، حيث يمثل خط أنابيب “نورد ستريم 2″ محور خلاف آخر بين واشنطن وبرلين حيث تعارض الولايات المتحدة بشدة مشروع ” نورد ستريم2″ الذي يمر عبر بولندا وأوكرانيا لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وفرضت عقوبات على الشركات العاملة في المشروع، وترى أنه يقوي النفوذ الروسي في أوروبا، و يمنعها من بيع المنتجات النفطية الأمريكية في القارة العجوز.

وبالإضافة إلى خط الأنابيب، تسبب الملف الإيراني في أزمة كبيرة في العلاقات الأمريكية الألمانية منذ أيار 2018، حين قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي المبرم في 2015، وضغط على الدول الأوروبية لاتخاذ نفس الخطوات، لكن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا قادت موقفاً أوروبياً يرفض الانسحاب من الاتفاق، ويتمسك به، ويرفض أيضاً العقوبات الأمريكية على طهران والشركات والكيانات المتعاملة معها تجارياً. بل سعت هذه الدول إلى التحايل على العقوبات الأمريكية عبر نظام أوروبي للتعاملات المالية مع الدولة الآسيوية، وهو ما أغضب الولايات المتحدة بشدة.

خلال الفترة الماضية، كان ترامب يخطط لعقد قمة مجموعة السبع في البيت الأبيض رغم تفشي فيروس “كورونا” المستجد، لكن ميركل رفضت المشاركة بسبب الوباء ما أثار امتعاض ترامب الذي شعر بالاهانة من موقف ميركل، واضطر إلى تأجيل القمة إلى شهر أيلول القادم.

 العلاقات.. إلى أين؟

فتحت الأزمات المتكررة في العلاقات بين برلين وواشنطن باب التساؤلات حول مستقبل العلاقات العابرة للأطلسي، وهل بلغت هذه العلاقات أسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية؟ وما يمكن أن يحدثه أي تغيير في القيادة السياسية في الولايات المتحدة بعد تشرين الثاني المقبل؟.

في هذا الإطار، تقول الخبيرة في الشؤون الأمريكية والأستاذة بجامعة برلين الحرة، جيسيكا سي إي جينوف هيشت: إن العلاقات الألمانية الأمريكية ليست جيدة في الوقت الحالي، وأن خطاب ونهج الإدارة الأمريكية لا يساهم في تحسينها، لكن لا يمكن القول إن العلاقات بين البلدين تمر بأسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية، فلا يزال هناك العديد من أوجه التعاون الوثيق في القطاعين الاقتصادي والأمني.

وأضافت يقف ترامب في طابور طويل من صناع السياسة في الولايات المتحدة الذين ينظرون إلى أوروبا كمنافس حقيقي، وليس كشريك أو حليف، وهذا التوجه ليس جديداً، ذلك أن هنري كيسنجر على سبيل المثال، كان يرى أن التكامل الأوروبي سيجعل القارة منافساً قوياً لبلاده، ونصح بمواجهة ذلك عبر التدخل في شؤون الاتحاد الأوربي.