الولايات المتحدة .. من “الوهم” إلى “الإله الذي فشل
ترجمة وإعداد: هيفاء علي
لم يشك الكاتب جون ستيوارت ميل في عمله ” الحرية” الذي صدر عام (1859) في أن الحضارة العالمية التي تأسست على القيم الليبرالية كانت الوجهة النهائية للبشرية جمعاء. كان يتطلع إلى “العلم الدقيق للطبيعة البشرية”، الذي سيصوغ قوانين علم النفس والمجتمع الدقيقة والعالمية مثل تلك التي في العلوم الفيزيائية. في عالم اليوم، يُنظر إلى هذه “القوانين” الاجتماعية على أنها منشآت ثقافية غربية بحتة، وليس باعتبارها قوانين أو علوما.
وبالتالي، لم يكن الادعاء بحضارة عالمية مدعومة بالأدلة سوى الأثر المروع للمسيحية اللاتينية، وتيار ثانوي لليهودية. تعامل “ميل” مع الدين العلماني – الإيمان – أكثر من تعامله مع التجريبية، إذ لا توجد وجهة” بشرية مشتركة في المسيحية الأرثوذكسية أو الطاوية أو البوذية، لذلك لا يمكن وصفها بأنها عالمية.
لذلك تعكس المبادئ الليبرالية الأساسية للحكم الذاتي الفردي والحرية والصناعة والتجارة الحرة انتصار النظرة العالمية البروتستانتية في الحرب الأهلية التي استمرت 30 عاماً في أوروبا التي لم تكن رؤية مسيحية بالكامل، بل كانت رؤية بروتستانتية. في زمن “ميل” كانت أوروبا بحاجة للحضارة، فهو، أي ميل، يعترف ضمنياً بذلك ولهذا السبب نراه يبرر تهجير السكان الأمريكيين الأصليين بحجة أنهم لم يروضوا البرية، أو لم يجعلوا الأرض منتجة.
بعد الانتصار في الحرب الباردة اكتسبت الولايات المتحدة قوة جديدة “القوة الناعمة”، ومع مرور الوقت أصبحت إطاراً ساخراً. واليوم مع انهيار القوة الناعمة للولايات المتحدة، لا يمكن حتى أن يستمر الوهم بالعالمية فقد قدمت دول أخرى نفسها على أنها دول “حضارية” منفصلة ومقنعة بنفس القدر، ما يعني بالضرورة أنه حتى لو فازت المؤسسة الليبرالية الكلاسيكية في الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني، فإن الولايات المتحدة لن تزعم بعد الآن أنها تمهد الطريق لنظام عالمي جديد.
وحتى إذا كان هذا التيار البروتستانتي العلماني سينتهي، فمن الضرورة بمكان توخي الحذر لأن تدينه الخفي وعدم إدراكه هو الذي سيكون “الشبح على الطاولة” بشكل جديد، لأن “الوهم القديم” لا يمكن أن يستمر كون قيمه الأساسية راديكالية ومشوهة وتحولت إلى سيوف تُستخدم لتثبيط الليبراليين الأمريكيين والأوروبيين الكلاسيكيين والمحافظين المسيحيين الأمريكيين على حد سواء. لذلك نرى الآن أن جيل الشباب من الليبراليين الأمريكيين المستيقظين هم الذين يؤكدون بشدة أن النموذج الليبرالي القديم هو وهم، حتى أنه لم يكن أكثر من مجرد قمع يخفي الغطاء سواء كان ذلك محليا أو استعماريا أو عنصريا أو إمبراطوريا.
هذا الهجوم يأتي من الداخل الأمريكي، وهو نفسه الذي يثبت فشل القوة الناعمة وقيادة عالمية من الولايات المتحدة، وهو نفسه الذي فضح “الوهم” الامريكي . جيل الصحوة هذا لا يكتفي بفضح الوهم، بل هو يمزق أعلام الحرية والازدهار اللذان تم الحصول عليهما بفضل السوق الليبرالي. حتى “العلم” أصبح “الإله الذي فشل”، وبدلاً من كونه طريق الحرية فقد أصبح طريقاً غامضاً بلا روح. لكن هذه الأعلام الممزقة لا يمكن أن تُعزى إلى جيل التنوير، حيث لم يكن هناك “رخاء للجميع” بل كان هناك تشوهات وهياكل منحرفة، خاصةً عندما يقوم بنك الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الأمريكية بطباعة أموال جديدة وتوزيعها على المستلمين المختارين، بحيث لم يعد هناك أي طريقة لتخصيص “قيمة” للأصول المالية، لأن قيمتها تكمن في استعداد الحكومة المركزية لدفعها مقابل السندات أو لمنحها في حالة الإنقاذ.
“الإله الذي فشل- صدام الأصنام ” عنوان كتاب أندريه غيد الذي يتساءل فيه عن الغرض من هذا النظام المالي الضخم المعروف باسم “وول ستريت”. لماذا لا يعهد به إلى عدد قليل من الكيانات، مثل Blackrock و KKR (صناديق التحوط)، والسماح لهم بتوزيع “الأموال” المطبوعة حديثاً من بنك الاحتياطي الفيدرالي على أصدقائهم؟ .
اليوم، الولايات المتحدة ممزقة بسبب التماثيل المقلوبة، والمحاجر المدمرة، و العلامات غير المستنيرة، ولكن من هم هؤلاء الثوريون الثقافيون؟ وفقاً للحكمة الشعبية، فإنهم سكان المناطق المحرومة في المدن، ضحايا العنصرية والغاضبون من مقتل جورج فلويد.
يشير البروفيسور جون غراي إلى أنه في “الإله الذي فشل” يقول غيد: “إيماني بالشيوعية مثل إيماني بالدين، إنه وعد الخلاص للبشرية”. يعزز غراي الفكرة بالتأكيد أن الشيوعية كانت نسخة إلحادية من التوحيد. وكذلك كانت الليبرالية، وعندما تخلى “غيد” وآخرون عن الإيمان بالشيوعية ليصبحوا ليبراليين، لم يتخلوا عن المفاهيم والقيم التي ورثتها الأيديولوجيتان من الدين الغربي، وإنما استمروا في الاعتقاد بأن التاريخ كان عملية اتجاه تقدمت فيه الإنسانية نحو الحرية العالمية، ونفس الشيء ينسحب على اليقظة.
أما تاكر كارلسون، المعلق المحافظ الأمريكي البارز المعروف بصراحته، فيصور حركة الاحتجاجات في ضوء مختلف قليلاً: “هذا ليس اضطراباً مدنياً مؤقتاً، إنها حركة سياسية جادة ومنظمة للغاية … إنها عميقة ولديها طموحات سياسية واسعة و ستنمو، هدفها هو إنهاء الديمقراطية الليبرالية وتحدي الحضارة الغربية نفسها … هذه ليست احتجاجات، بل إنها حركة شمولية سياسية”.
مرة أخرى، هذا الجيل الجديد ليس لديه ما يفعله لإحداث عالم جديد، باستثناء تدمير القديم. هذه الرؤية هي بقايا المسيحية الغربية “الوحي والفداء”، حيث يعتقدون أن هؤلاء المستيقظين لديهم طريقتهم الخاصة، و منطقهم الداخلي.
وصل “شبح” ميل إلى الطاولة، ومع عودته، ولد الاستثناء الأمريكي “الفداء للبقع السوداء” كونها قصة يختزل فيها تاريخ البشرية إلى تاريخ النضال العرقي. ومع ذلك ، لم يعد لدى الأميركيين، صغاراً وكباراً ، القوة لعرضها على أنها رؤية عالمية. والسؤال هل يمكن للرئيس ترامب أن يحاول الحفاظ على الوهم القديم بقوة قوية خاصةً مع الولايات المتحدة الممزقة للغاية والمختلة وظيفياً؟