“الرجل الصغير”.. عندما نفقد الحلم نفقد قيمة طفولتنا
في تجربتها الإخراجية الأولى تذهبُ الفنانة الشابة تاتيانا أبو عسلي في فيلمها الروائي القصير “الرجل الصغير” ودون أي تعقيد إلى معاينة أطروحتها السينمائية ببساطة ومباشرة مطلقة، بدءاً بالعنوان الذي يبدو كاشفاً فكرة الفيلم برمته، وانتهاء بالمشاهد والكوادر التي اعتمدتها لاحتواء تلك الفكرة وسعت إلى إيصالها بممكنات وإمكانات فنية بسيطة جداً، ونعني بذلك استيحاء عوالم الطفولة ومكنوناتها الداخلية وما اعتراها من تداعيات الحرب التي اكتوى بنيرانها السوريون جميعاً، ولاسيما الصغار وهم يرون أحلامهم تتهاوى وأمنياتهم المشتهاة تطحنها فصول هذه الحرب ويومياتها القاسية.
يروي فيلم “الرجل الصغير” الذي شارك مؤخراً في المسابقة الرسمية لمهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة بدورته السابعة، ونال الجائزة الفضية، حكاية طفل فقير مكتوب عليه أن يجدّ ويجتهد أولاً لتعويض غياب الأب بمساعدة أمه الأرملة بعد أن توفي زوجها، وثانياً لهاثه المحموم لتحقيق حلمه باقتناء معطف جميل يقيه برد الشتاء، ظلّ يراقبه بأسى على واجهة زجاجية لأحد المحلات وسعره يرتفع كلّ يوم، فيما كفاه تُطبقان بارتجاف على بعض القروش القليلة التي يجمعها في حصالته الفخارية التي سينتهي الفيلم عندها، حين يضطر هذه الطفل إلى كسرها بعد أن أُجهض حلمه إثر إصابة أخته الصغرى بانفجار قذيفة، فيتخلّى عن هذا الحلم الذي طارده طوال مشاهد الفيلم ليؤمّن العلاج والدواء لأخته ويدرأ الحزن عن قلب أمه المفجوعة.
وعلى الرغم من أن “الرجل الصغير” هو باكورة أعمال المخرجة تاتيانا أبو عسلي، إلا أنها برعت كثيراً في استثمار لقطات مشاهدها إلى أبعد مدى، ووظفت طاقات الممثلين جميعاً والأمكنة بحيزها الداخلي أو الخارجي، وانتقال زوايا الكاميرا، والمؤثرات الصوتية والموسيقى بما يلبي فكرة الفيلم، إذ سنرى في البداية اللقطات القريبة وتلك العالية التي تركز على بنية الطفل وعينيه ووجهه وهيئته وشكله ومحيطه الخارجي وركضه الدائم في سباقه مع الزمن لتأمين احتياجات المنزل ومساعدة والدته في أعمال توضيب الخضار مقابل أجور بسيطة، ومن ثم ستنقلنا إلى كلوزات متقنة ولقطات متوسطة وكاملة ترصد من خلالها تفاعل هذا الطفل مع محيطه الخارجي في الشارع والسوق والوقوف في طوابير منتظري الغاز والمازوت والخبز، وصولاً إلى اللقطات الواسعة التي تختصر الواقع الأليم الذي يعيشه الناس، فضلاً عن الأمكنة المنتقاة بدقة وعناية لتروي حكايات المدينة التي تخبّئ حزنها وقلقها وخوفها في عيون هؤلاء الناس وأرواحهم المتعبة.
وبعكس النهايات التقليدية أو المتوقعة في كثير من أفلام الشباب وتنتهي عند الشخصية الرئيسية أو الحدث المركزي، تفاجئ أبو عسلي المتلقي والمشاهد بإنهاء الفيلم عند لحظة تحطّم الحصالة الفخار التي تتناثر بمشهد درامي مفجع وموجع ممزوجة بقطع النقود التي جمعها الطفل لتحقيق حلمه الأثير، في إيحاء بانكسار هذا الحلم المشتهى الذي لهث الطفل وطارد الأيام لتحقيقه.
في حديثها لـ”البعث” تؤكد المخرجة تاتيانا أبو عسلي أن الفيلم يختزل حكاية أطفالنا في سورية، وكيف تحولوا إلى رجال صغار بسبب الحرب والفقر وغياب أحد الوالدين، إضافة إلى صعوبة الحياة وقسوة المعيشة. وتضيف: لكن، ليست الأعمال القاسية وعمالة الأطفال والتسرب من المدارس وعدم اللعب فقط هي ما يجعل من الطفل رجلاً صغيراً، وإنما فقدان الحلم تحديداً هو ما يجعله يتحوّل إلى رجل صغير ويكبر قبل أوانه، وأقولها باختصار: عندما نفقد الحلم نفقد قيمة طفولتنا، فقد حاولت في الفيلم التركيز أكثر على عوالم الطفل الداخلية وأفكاره وأحاسيسه، ومقاربة ما يحدث داخله خلال عيش حلمه وصدمته بالواقع وتعنيف الحياة له نفسياً ومعنوياً، فهو مجبر في هذه الظروف الصعبة القاسية على مساعدة أمه في الأعمال المنزلية، وكأنه حلّ محل رجل البيت، لكن وعلى الرغم من عنف الحياة والناس خلال رحلته اليومية ظلّ يحتفظ بحلمه الصغير الخاص إلى أن حدث طارئ فرض عليه ظرفاً أقوى بعد إصابة أخته الصغيرة، ما دفعه للتخلي عن حلمه وطفولته ليكسر “مطمورته” لعدم توفر المال الكافي لمعالجة تلك الأخت المصابة.
وحول جائزة المهرجان قالت أبو عسلي: أنا راضية تماماً عن نتيجة هذه التجربة، وأهمها انطباع الجمهور وتفاعله مع الفيلم، وكنت سعيدة جداً، وشعرت لحظة استلامي الجائزة أنها لحظة ولادة جديدة جعلتني أصمّم أكثر على تطوير نفسي وأطمح لأعمال أفضل في المستقبل، بل أيقنت أن التعب والعمل بشغف لا يضيعان أبداً، وجميل جداً إحساس الربح بعد هذا التعب والعمل الجاد، مضيفة: كنت أتوقع أن أحظى بجائزة، ولكن لم أكن أتوقع الفضية بل أقل، لأن طموحي في “الرجل الصغير” كان أكبر من الإمكانات المتاحة وظروف التصوير الصعبة التي واجهتنا، حيث لم أستطع إنجاز جميع اللقطات التي خطّطت لها ورسمتها في السيناريو، وختاماً أشكر المؤسسة العامة للسينما التي وفرت لنا هذه المنحة وأمدّتنا بكل ما يعزّز قدراتنا الإبداعية.
يُذكر أن فيلم “الرجل الصغير” سيناريو وإخراج تاتيانا أبو عسلي، من إنتاج المؤسسة العامة للسينما (مشروع دعم سينما الشباب) لعام 2019، تمثيل: تاتيانا أبو عسلي– الطفل هاشم خضور– أحمد عيد– فايز أبو الشكر– يزن مرتجى– منيار الحيناني- عبد القادر السمان.
عمر محمد جمعة