من الخيمة.. إلى الميدان!
حسن حميد
أعترف، أنني، ومنذ زمن يكاد يكون بعيداً، لم أقرأ كتاباً مهمّاً متفرداً في مادته، وقولاته، ونبل مقصده، مثل هذا الكتاب الرابخ بين يديَّ (من الخيمة إلى الميدان) للوطني الفلسطيني الدكتور طلال ناجي، فهو وعبر خمسة وعشرين فصلاً ممتلئاً بالأحداث والحادثات، يحقّب لتاريخ النضال الفلسطيني، بدءاً من الفاصلة الجارحة التي وقعت في مستهل سنوات عقد التسعينيات، أعني اتفاقية أوسلو، وصولاً إلى سنوات القرن الحادي والعشرين في عقديه الراهنين! وقد مرَّ من تحت هذه القوس التاريخية الكثير من الباديات وجعاً وحزناً وألماً، مثلما مرّ من تحتها الكثير من الباديات فعلاً، وعطاءً، ونبلاً، وتشوفات حول الوطن الفلسطيني العزيز.
هذا الكتاب الكبير، الذي أظن بأنه قرَّ الآن في كل بيت فلسطيني من جهة، وفي كل بيت آمن أهلوه بالعروبة تاريخاً ومعيوشة وعقيدة، وأن فلسطين حق وليست معركة أو مجرد خلاف أو سوء تفاهم من جهة أخرى. ففي الكتاب تحقيب رصين دقيق لما حدث خلال العقود الثلاثة الماضية، وهي زمن طويل عرف متغيرات وتحولات ومنعرجات والتواءات كثيرة، مثلما عرف أمراً جوهرياً واحداً هو الإيمان بأن فلسطين عربية من مائها إلى مائها، ومن تاريخها الذي غلَّ بعيداً في المدونات والنقوش والوثائق التي هي مساوِقة لتاريخ بلدان المنطقة كلها، ووصولاً إلى راهنها الذي جسّدته بنات فلسطين الشابات، وأبناء فلسطين الشبان الذين لم يكترثوا بكل هذه الانحناءات التي عرفتها السياسة، والحكايات، والمواقف، والتصريحات لأنهم وعوا أن ما يبديها ويجعلها حانية هو الزيف مرةً، والخوف مرةً، وضعف الإيمان بالمستقبل مرةً ثالثة!
إن هذا الكتاب المحتشد في معلوماته يواقف اتفاقيات أوسلو ليس من أجل تكفيرها، وإنما من أجل رفضها تماماً من خلال بيان عيوبها التي أخذت القضية الفلسطينية إلى أمكنة باردة باهتة، كما يواقف ذهنية المفاوضات لا ليرجمها فحسب، وإنما ليقول إنها مفاوضات للعبث، واستهلاك الوقت، وهي الطريق الضريرة التي لا تصل بالفلسطيني إلى أبسط أحلامه، ويواقف الكتاب أيضاً الخط البياني للصراع العربي/ الصهيوني وهو يهوي سقوطاً، وتفككاً وتشظياً منذ كان التفريط بالميثاق القومي، وطيّ المناداة بأن قضية فلسطين هي قضية العرب وقضية أهل النبل من أحرار العالم وعقلائه، وهي ليست قضية جغرافية أو جوازات سفر، إنما هي دارة الحق التي غشيها الظلموت الصهيوني منذ عام 1948.
والكتاب، في جزء كبير من صفحاته، يواقف انتفاضات أبناء الشعب الفلسطيني في عصرنا الحديث، وخلال العقود الثلاثة الماضية، ليقول إنها انتفاضات شعب بأجياله، وأفكاره، وحاضره، وأحلامه، ويقينيته المطلقة بأن فلسطين أرضاً، وتاريخاً، واجتماعاً، وثقافةً، ومعنىً، وسيادةً، وراهناً ومستقبلاً هي عربية، وهي جزء من جغرافية بلدان العرب مثلما هي جزء من تاريخهم وأحلامهم معاً، ويواقف الكتاب أيضاً، وعبر تلبث طويل، ثقافة المقاومة، وتعددية أيديها، وصوابية قناعاتها التي أكّدت أن الصهيوني لن يقنع بخطاب تاريخي، ولا بخطاب فكري، ولا بخطاب ديني، كي يعترف بحقوق الفلسطينيين في وطنهم الفلسطيني، ولذلك فإن لا طريق لاستعادة الأرض وتحرير أهلها وتاريخها سوى طريق المقاومة.
وقد أصابت الدكتورة بثينة شعبان التي قدّمت للكتاب حين قالت هذا كتاب صفحاته وثيقة سياسية إنسانية عن مسيرة الوطني الفلسطيني الدكتور طلال ناجي، الذي هو في كتابته الشارقة مثل الضوء ينافس الأدباء في أسلوبه، والمؤرخين في توثيقه، والسياسيين في جلو الأفكار وبيان مستبطناتها وما فيها من حقائق وزيف، مثلما ينافس أهل الأقلام والتجارب الذين كتبوا سيرهم لتكون الدليل والبوصلة للأجيال القادمة.
كتاب (من الخيمة إلى الميدان) عنوان ثمين لكتاب ثمين وثقيل في طروحاته، ومصارحاته، ومكاشفاته، وأسراره التي تماشي كلَّ سطر من سطوره مثلما تماشي النفوس الكبار أحلامها التي حباها الله بالنورانية الآبدة!
Hasanhamid55@yahoo.com