ورق عتب
من بين مجموعة الأوراق المبعثرة على الطاولة أمامه، سحب واحدة من يدها وبدأ يحرك قلمه صعوداً ونزولاً، تارة بعصبية وتارة أخرى باستسلام غير مقترن بالهدوء أو الطمأنينة. وبعد ساعتين تخللها بضع سجائر وثلاثة فناجين من القهوة كان ما يلي:
أنا آسف، ما من شيء جديد أقدمه ولا يمكن اعتبار ما تقرؤون كلاماً خلاقاً وتفاصيل مبهرة، هو بوح عادي جداً لظروف ليست كذلك.
على كل حال، لست أنا الوحيد الذي يشعر بالعجز على هذا الكوكب المشتعل بالمتناقضات. فالأحداث تتسارع حولنا وكأن هناك من يحرك العجلة بسرعة مجنونة، ونحن مجمّدون من قلة الحيل والمال والماء وكل أسلحة محاربة الجوع والظلم والاستغلال.
إن الرابط بين الماضي والمستقبل هو الحاضر، لكنني أستغرب تماماً ماذا ستحكي الأجيال القادمة عن ماضيها الأسود – حاضرنا ذاته – الذي نعيشه مكبلين بأثقال لا تُحمل وتواريخ منكوبة تصلح أن تكون مواد دسمة ويومية لبرنامج حدث في مثل هذا اليوم.
أحسد بعض السجناء في زنزاناتهم، فهم يصمون آذانهم عما يحصل في الخارج، يأكلون ويشربون ويجدون سريراً ينامون فوقه آخر النهار، ببساطة هم يدفعون ثمن أخطائهم التي ارتكبوها بملء إرادتهم، لكن من مشى بجانب الحيط وخاف من أن يدوس خطوة زائدة أو يدهس نملة دون قصد، ها هو أسير في بيته وبين أطفاله الذين جاؤوا إلى الحياة عنوة، كيف يدفع فاتورة آخر الشهر بيدين لا يمكنها أن تبث الروح بأكوام اللحم تلك؟ من بيده عصا سحرية كي تخلصنا من كل الموبقات والأوبئة والأبواق، وتفتح باب النجاة أمام شعوب كاملة تشعلها كلمة واحدة من قائد ما، منصب عليهم بحكم أنه ولي مقرب من الله – الخالق الذي يلحقون به كل غبائهم وعقدهم الدفينة.
البيوت الطيبة تصفر بها الريح على مزاجه وكيفما يحلو له، الأبواب مفتوحة على مصراعيها لكل أشكال الخوف والتعب، من يسترها برداء معقول ويحمي أصحابها المساكين من هول الكارثة.
العالم الجديد لمن سيورث بالضبط؟ أيعقل أن يكون فقط لأبناء لا يملكون إلا ثروات آبائهم المسروقة ونفاياتهم المعنوية؟
أين هم أبناء ما يسمى الكادحين؟ الذين ذابت عيونهم كالشمع على صفحات الكتب وتحت الشمس في الحقول والمصانع ووراء ثقب إبرة وخيط بين يدي سيدة مباركة لم تسمع بإبر الحقن والبوتوكس وخيوط الشد. مامعنى الجمال حتى، وماهو مفهوم الطبيعة التي لم يبق منها شيء.. لقد بدأ الأمر بالبيوت البلاستيكية ويبدو أنه سينتهي بالبيوت البلاستيكية أيضاً مع اختلاف المحتوى.
نحن بالفعل عاجزون تماماً عن اختلاق أي حدث من شأنه أن يرفع سوية الحياة إلى مقام لائق بإنسانيتنا وما تبقى فينا من فكر وثقافة وقدرة على الاستمرار. كل ما يمكننا فعله هو انتظار القادم، الذي سيصبح ماضياً بعد قليل.
ندى محمود القيّم