في ذكرى الأديب الشهيد غسان كنفاني.. فلسطين تفتقد مثقفيها؟
إذا كان الشهيد باسل الأعرج الناشط والشاب الفلسطيني الثائر الذي اغتالته قوات الاحتلال الصهيوني في السادس من آذار عام 2017، قد أعاد باستشهاده وسلوكه إيقاد فكرة الإنسان المقاوم والمثقف المشتبك، وجهر بذلك في قوله: “بدكّ تصير مثقّف، بدّك تصير مُشتبك، ما بدّك مُشتبك.. بلا منك وبلا من ثقافتك”، وتعرفنا إليه أكثر في كتابه “وجدت أجوبتي” الصادر في القدس المحتلة، وتأكيده على حفظ إرث ثقافتنا الوطنية الحقيقية المكتوبة بدم الشهادة وعرق التجربة، بمواجهة تحالف ثقافات الزيف الثلاث: ثقافة السلطة وثقافة الاستعمار وثقافة الارتزاق، فإن الأديب غسان كنفاني الذي تمرّ هذه الأيام ذكرى استشهاده، بعد أن اغتاله في بيروت عملاء الموساد الصهيوني مع ابنة أخته لميس بانفجار سيارة مفخخة في الثامن من تموز عام 1972 يعود له الفضل في تجسيد هذه المقولة قولاً وفعلاً، ذلك أنه استطاع بقلمه أن يؤسّس بشكل مبكر لأدب مشتبك يقضّ مضاجع العدو ويهزّ أركانه ويقوّضها، ما دفع بـ”غولدا مائير” رابع رئيس وزراء للحكومة الإسرائيلية للقول بعيد اغتياله: “اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح.. غسان بقلمه كان يشكّل خطراً على (إسرائيل) أكثر مما يشكّله ألف فدائي!”.
لقد أنتجَ الشهيد غسان كنفاني الذي يعدّ من أشهر الكتّاب والأدباء والروائيين والصحفيين العرب في القرن العشرين، أدباً ثورياً مغايراً متمرداً على السائد والمألوف، بات بعد رحيله منهلاً للشباب العربي برمته، كما للمتعطّشين للفكر المقاوم الذي يرفض فكرة الاحتلال، ويعدّها جريمة ينبغي التعامل معها بالقوة لا بالتنظيرات السياسية أو الحلول الآنية والشعارات الفضفاضة المزعومة، بل يذهب أكثر إلى فضح المتاجرين بالقضية، وهو القائل: “إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضية.. فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين.. لا أن نغيّر القضية”.
وعلى هذا فقد ارتقت كتاباته وفكره وسلوكه إلى مصاف الأدب الخالد والأقوال المأثورة التي تُؤبّدُ ويُستشهد بها في الدفاع عن الشعوب المظلومة والأوطان التي تتعرّض للعدوان ومحو الهوية وسلب الأرض، كما حدث للشعب العربي في فلسطين، بل يمكننا التأكيد اليوم أن هذا الفكر المقاوم غدا محطة أثيرة يتوقف عندها، بكثير من الاحترام والتقدير، ويستفيد منها الأدب العالمي في مشارق الأرض ومغاربها، وإلا ما الذي يدفع الكاتب والناقد “نوبو آكي نوتاهارا” مثلاً إلى ترجمة بعض أعمال غسان كنفاني وبينها روايته الشهيرة “عائد إلى حيفا” إلى اللغة اليابانيّة، أو أن تتلقى المكتبات الإيرانية “أدب المقاومة في الأرض المحتلة” كأول كتبه المترجمة إلى الفارسية، ليأتي بعدها الشاعر والمترجم الإيراني موسى بيدج ويترجم كتابه “في الأدب الصهيوني” ويتعرف القارئ الإيراني على قصصه القصيرة التي ترجمها د. غلام رضا إمامي، دون أن ننسى أن قصصه ورواياته وبينها: “أرض البرتقال الحزين”، و”رجال في الشمس”، و”أم سعد”، و”ما تبقى لكم”، و”عالم ليس لنا”.. وسواها، قد تُرجمت إلى الألمانية والإنكليزية والدانماركية والإيطالية والإسبانية والفرنسية، فضلاً عن الأطروحات الجامعية والأبحاث والدراسات المحكمة التي تناولت أعماله وآثارها على المستوى الإنساني، ونُشرت في كبرى الصحف والمجلات في الوطن العربي والعالم.
إن هذا الأدب الثوري الذي أنتجه غسان كنفاني، ويدعو إلى دوام الاشتباك مع العدو، والدفاع بالقوة عن الحق المسلوب، وشخصية إنسانه الذي يتعرّض لأبشع صور التنكيل والقهر والطرد القسري، لهو أدبٌ جدير بالتقدير وقمين بالمكانة العالمية التي وصل إليها، بل يتعضّد أكثر فأكثر حين تتاح له منابر إعلامية تذكّر به على الدوام، وهذا النهج في زعمنا تقفّاه وسار عليه الكثير من الإعلاميين الذين عرفوا غسان كنفاني وعايشوه عن قرب، فها هو الصحفي طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة “السفير” اللبنانية يكتب بعد سنوات من رحيله: “أحفظ لغسان كنفاني أنه أدخلني إلى قلب فلسطين، وقد كنت وجيلي نقف على بابها، ونحبها بلسان الشعراء من دون أن نعرفها. كذلك أحفظ لغسان أنه فتح أمامي، وجيلي، الباب لمعرفة إسرائيل معرفة تفصيلية، بأحزابها وقواها السياسية وتركيبتها الاجتماعية والتيارات الدينية ومؤسساتها العسكرية والأمنية. كانت فلسطين بلا خريطة، شحنة عاطفية عالية التوتر مبهمة الملامح، فانتزعها غسان من الخطاب الحماسي المفرغ من المضمون، على طريقة “يا فلسطين جينالك.. جينا وجينا جينالك”، وأعادها أرضاً تنبت البرتقال والياسمين ولكنها تنبت قبل ذلك الرجال والنساء والأطفال. أعاد فلسطين إلى أرضها، وأعاد الأرض إلى تاريخها، وأعاد التاريخ إلى أهله وأعاد الأهل إلى هويتهم الأصلية، فإذا فلسطين عربية باللحم والدم والهواء والشمس والقمر والمهد والقيامة والجلجلة والأقصى والحرم الإبراهيمي والأنبياء والمعراج والشوك والحصى ومياه العمادة والأغوار التي تضمّ في حناياها عشرات الصحابة الذين استشهدوا من أجلها وفي الطريق إلى تحريرها من الاحتلال الأجنبي”.
اليوم وفي ذكرى رحيله وأمام الأخطار التي تواجه القضية الفلسطينية، لا بد من القول وبكل جرأة: إن فلسطين تفتقد مثقفيها الحقيقيين الذين يشبهون غسان كنفاني وناجي العلي وماجد أبو شرار وباسل الأعرج.. وغيرهم، ممن خطّوا بدمائهم الزكية سطراً في سفر المقاومة الخالد، تفتقدهم وقد اندغم كثير منهم –بكل أسف- بما يجري من انقسام وخلافات سياسية، بل إن منهم من ضاع وضيّع البوصلة وتحقّقت فيهم نبوءة غسان كنفاني القائل يوماً: “أنا أعرف ما الذي أضاع فلسطين: يكتبون عن فلسطين، وعن حرب فلسطين، وهم لم يسمعوا طلقة واحدة في حياتهم كلها!”.
عمر محمد جمعة