من الألف حتى الياء!؟
د. نهلة عيسى
هل تنامون؟ أنا نادراً ما أنام، ولذلك عندما أكتب، وغالباً ما أكتب، يخطر لي مراراً أن أتمدد فوق الجمل، وأن أتمشى على خط الكتابة، فأركل في طريقي همزة، أو أقضم ضمة، ثم أفكر في علك كل الحروف لتختفي من رأسي، فأنعم بالصمت الجميل، فلا أسمع، ولا أرى، ولا أتكلم، وأحلم أني ربما إن فعلت ذلك سأنام، فيزداد صحوي!؟
لا أنام وأكره الصحو، لأنه وجع “اللا” في وجه العدم، حيث الواحد منا يعرف العقل ويعاشر مكرهاً الحماقة، وحيث تصبح الحياة صيغة للتبخيس وليس للتدليل، وقد سئمت أن معظم ما في حياتنا مُجهل، مُبخس، بينما في البال مدن بالبشر، تستوطن القلب منذ حبوت، لم تكن ساقاي تحملاني إليها، ولكن أبي حملني إليها، ليرتسم الوطن بناسه على ركبتي خرائط لا تمحى، لا تفارق صحوي، ويزاحم ظلها ظلي، كتفاً بكتف، وقدماً بقدم، كما تتربع كل صباح في عيوني، وجهاً يلاحق البشاشة، وصوتاً ملحاً كصوت أمي.. يرشدني، إفعلي ولا تفعلي، ليجعلني، في بعض ما أفعل، نسخة من كل ناس الوطن، وصوتاً لمن رحلوا ونسوا في عيشهم أن يقولوا: لا!!
أكره الصحو، ويبدو أني أحتقر النوم، لأنه يقاطع الحقيقة، ويسد أبواب السؤال الراغب في جواب لا يدخل المرء في متاهة الأسئلة، وجدلية أننا كلنا متشابهون، كلنا سواء! وهذا الكلام ليس صحيحاً، نحن لسنا سواء، ووحدهما الموت والنوم يجعلاننا سواء، وحكايات بلا أسماء، هذا فعل كذا، وتلك قالت كذا، وذاك مات، رغم أن الموت في وطننا بات أشبه بسيوف قديمة تتدلى في استعراض، نبلها مدفون خلف تلال الرماد لا يُرى، لأنه لا يمكن لمن يعانق الردى أن يَرى؟
تقاطع رغبتي في النوم كتابتي، فأقاطع الكتابة، وأخبرها: أنا متعبة، وقلبي منهك من الدق على أبواب الأسئلة، ويومي تسعل فيه الظلمة والبرد، غادريني، أعطني القدرة حتى أقول، ثم أبتسمُ أني أخاطب الحروف، تراني جننت، أم أن من يعاشر طوفان الكلمات مثلي، تغمره العتمة، فيناجي الرب هداية الطريق، ويظن أحرف العطف السلمة الأولى إليه، وأحرف العلة حاجزاً كي لا يقع، فيقع! آه يا كلمات، يا نبية: جائع قلبي من أكل الرياء، جائع.. حتى البكاء، فأخبريني ماذا يأكل القلب، كي لا يموت من العياء!؟.
تقاطع رغبتي في النوم، رغبتي في معرفة الحقيقة، فأرى أسماء الإشارة على الشاشات تسمي شهداؤنا بأسمائها، وتشظي الوطن، وتُسخف الرعب الذي يفرض العيش في ظل السيف والمسدس، وتجعل المصابيح تخبئ عينيها بأهداب جناحيها عن كل الجرائم التي تقع، فنتمدد على الأرائك مسترخين، أن هذا ليس يعنينا، ونظن أن الهاء ستجمع الحطام والشظايا، وننسى أن كتاب من في غار حراء قرأ، صار في عصرنا سنداً لمن شظى الوطن!؟.
تقاطع رغبتي في النوم، رؤيتي الوقائع المبينة، ويحسدني الأصدقاء أنني “يوسف” محبوب “يعقوب”، ويدللون على ذلك بأني محبوبة الكلمات والحروف، وبأنها لي طوعاً، ترحل من أفواه وأقلام الكثيرين، وتبقى في جعبتي رابضة، وليتهم يعرفون أني جاهزة للتبرع لهم بها من الألف وحتى الياء، ما صلب يسوع، ولا سجن يوسف، ولا نفي محمد إلا لأنهم قالوا، وحده نوح نجا من الطوفان، لأنه تجنب الكلام!!
أكره الصحو، وأراه مشنقة، رغم أني أريد لقلبي أن يبقى بعيداً عن مسرح الغفلة، متسربلاً بالطمأنينة، لا يعرف الظلمة، ولا يخشى الأبواب المغلقة، يصاحب الدروب، ويتصفح الوجوه، كل الوجوه، ويرى في كل وجه أسم علم، يشبه وجه أمي، ملامح الجنود، يشبه وجه الوطن، وتلك المدن التي حملني إليها أبي صغيرة، وكبرت وأنا أعرف حتى في الغربة من أين أتيت وأين سأنتهي، حربنا.. حرب حروف، بدأت باغتيال أسماء العلم ولام التعريف، ولن تنتهي مالم تعلق على المشانق رؤوس من حرمونا النوم، وجعلونا أسماء إشارة!!