الشرق الأوسط يقلب موازين واشنطن
سمر سامي السمارة
هيمنت القوى الخارجية على سياسات دول الشرق الأوسط طيلة قرون عديدة، مستغلة إمكاناته لأغراضها الأنانية والدنيئة. كانت فرنسا وبريطانيا، بعد انهيار الامبراطورية العثمانية وانتهاء الحرب العالمية الأولى، أقوى الأطراف الفاعلة الخارجية، تلتهما الولايات المتحدة التي بدأ نفوذها بالتزايد بعد أن بدأت السيطرة على الموارد الطبيعية والبشرية في المنطقة لتطبيق استراتيجياتها الاستعمارية الجديدة، وإعادة تشكيل وهيكلة العالم على هواها.
وتنفيذاً لسياساتها المكيافيلية، أسست واشنطن لعلاقات نشطة مع بعض الدول العربية، واستخدمت تفوق قوتها العسكرية لإبقاء المنطقة تحت سيطرتها. وهذه الدول، التي لم يكن لديها القوة أو الدراية الكافية حول كيفية حشد وتوظيف قدراتها، كانت أثرت على نحو مفاجئ من مكتشفاتها النفطية، لتعمل كاستطالات مثالية للولايات المتحدة الأمريكية تدفع ثمن خططها في الهيمنة، بما في ذلك السيطرة الكاملة على مناطق أخرى في العالم خارج منطقة الشرق الأوسط.
إضافة إلى ما سبق، وإدراكاً منها لمزايا سياسة فرق تسد، فضلاً عن الخوف الواضح من صعود قوة عربية مقاتلة منافسة في المنطقة، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الحرب العالمية الثانية، بالاعتماد على الكيان الإسرائيلي؛ وبهدف تعيين وكيل لها في المنطقة، وضعت، إلى جانب بريطانيا، وعدد من الحلفاء الغربيين الآخرين، خططاً لإنشاء مثل هذا الكيان في قلب العالم العربي، منتهكة بشكل سافر مطالب وحقوق الفلسطينيين. خلال السنوات اللاحقة، استمرت الولايات المتحدة بتزويد إسرائيل بالمساعدات العسكرية والاقتصادية بشكل مستمر، وذلك لتأمين تفوقها خلال الحروب العسكرية العربية – الإسرائيلية المفتوحة منذ القرن الماضي. وفيما بعد، حاولت واشنطن من خلال تصعيد الصراعات العربية العربية، والفتن الداخلية التي انخرطت فيها “إسرائيل”، القضاء على أي جيوش عربية منافسة في العراق وسورية وليبيا ومصر، واستكملت هذه العملية بسلسلة من التدخلات في الشرق الأوسط، ومن خلال الثورات الملونة تستمر اليوم سياسة الأخ الأكبر للكيان الإسرائيلي، من خلال خطة ترامب المسماة “صفقة القرن”، والتي لاقت الانتقادات في كل مكان باستثناء إسرائيل. وقد أعربت صحيفة فرانكفورتر الجماينة الألمانية عن القلق الأوروبي العميق من أن خطط ترامب للتسوية في الشرق الأوسط تنطوي على ارتباطات مخيفة بسياسة الفصل العنصري، الأمر الذي جعل 50 سياسياً أوروبياً بارزاً يطالبون -عبر رسالة مفتوحة- برفض خطة ترامب واتخاذ تدابير لمنع تنفيذها خلال العقود الأخيرة، يمكننا القول: إن سلوكيات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كانت، إلى حد كبير، نتيجة لتعاونها مع الكيان الصهيوني، ومملكة آل سعود، والنظام التركي. لكن الوضع الإقليمي الحالي تغير مع صعود قوى مناهضة للمطامع والطموحات الأمريكية في المنطقة، مثل إيران التي دعمت بشكل كبير المقاومات في العراق وسورية ولبنان واليمن، وهو تصرف منطقي قامت به نتيجة للسياسات العدوانية والانتهاكات التي تمارسها واشنطن وحلفاؤها الإقليميين. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، في تسعينيات القرن الماضي، تمكنت روسيا بقيادة بوتين من استعادة نفوذها السابق في أوروبا والشرق الأوسط. ونتيجة لذلك، أصبح الشرق الأوسط اليوم أكثر انفتاحاً على موسكو التي عُهد إليها بمهمة المساعدة لإيجاد حلول للمشكلات الإقليمية الملحة، وهذا ما نراه بشكل واضح، خاصة، في تسوية أزمة النفط، والبحث عن مخرج من المواجهة الليبية. هذه الوقائع المستجدة، إضافة إلى إرهاق المجتمع الأمريكي بعد أطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة، أثارتهما واشنطن في أفغانستان والعراق، تضطر الإدارة الأمريكية للخروج التدريجي العسكري والسياسي من المنطقة. لذا نرى ترامب يدلي بشكل دوري بتصريحات حول سحب القوات من العراق وأفغانستان وسورية. لكن واقع الحال يؤكد أن الولايات المتحدة لا تعتزم مغادرة المنطقة، فذلك جزء من خططها الاستعمارية الجديدة للسيطرة على البلدان الغنية بالموارد. ولقد أكد ذلك وزير الدفاع مارك إسبر في خطاب ألقاه في آذار الماضي، عندما قال: إن بلاده سوف تتصدى لأي محاولة لانتزاع السيطرة على حقول النفط السورية باستخدام “القوة الساحقة”، إضافة إلى ذلك، تغيرت علاقات الولايات المتحدة، التي استمرت على مدار الأربعين عاماً الماضية، بداعميها الرئيسيين في الشرق الأوسط، أي السعودية وتركيا وإسرائيل، وكذلك موقف الأمريكيين وممثليهم في الكونغرس. وربما كانت المفارقة الأبرز، في هذا الصدد، هي أن الأشخاص الذين أقام الرئيس ترامب معهم “صداقات شخصية” (ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، والرئيس التركي أردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو) متهمون جميعاً بالفساد والاستبداد وإساءة استخدام السلطة والترهيب، أو ربما قتل خصومهم. ونتيجة لذلك، تضررت صورة هذه الدول في نظر الأمريكيين، ولم يعودوا يتمتعون بثقة ودعم المشرعين الأمريكيين أو أولئك الذين يؤثرون في الرأي العام. لقد جعل التدخل الأمريكي المستمر الوضع في الشرق الأوسط أكثر تعقيداً وتوتراً، فالحروب المستمرة التي تثيرها الولايات المتحدة حرمت الكثيرين من المأوى، وارتفع عدد اللاجئين في الشرق الأوسط بشكل كبير بسبب العمليات العسكرية؛ وإلى جانب انتهاكها العديد من الاتفاقيات الدولية، تخرق الولايات المتحدة اتفاقها النووي مع إيران، بل وتنتهك أيضاً القوانين الدولية من خلال السيطرة على مناطق في سورية وإبقاء وجودها العسكري في دول أخرى دون أن تطالها عقوبات مجلس الأمن الدولي. يشير كل ذلك إلى انهيار السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتحولها إلى دولة غير قادرة على التفاوض هدفها الوحيد هو إخضاع العالم بقوتها العسكرية. ولذا يتزايد نفوذ روسيا والصين، وحتى إيران في المنطقة، وقد بدأ حلفاء أمريكا السابقون في إعادة التفكير بجدية في اعتمادهم على واشنطن. تشير المقالات التي نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” ومجلة “فورن أفيرز” إلى أنه لم يتبق للولايات المتحدة سوى القليل من المصالح الضرورية في المنطقة، وأن وزارة الخارجية الأمريكية باتت على علم بتراجع تأثيرها في الشرق الأوسط، وقد عبر عن ذلك مؤخراً مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، في ندوة ألقاها في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. ومع ذلك، كما هو الحال دائماً في الحالات المتعلقة بالولايات المتحدة، لم تتمكن الإدارة الأمريكية حتى الآن من معرفة السبب الجذري للوضع القاتم الذي تعيشه واشنطن في المرحلة الراهنة، والمتمثل بالسياسات الأمريكية العدوانية البعيدة كل البعد عن اللغة الدبلوماسية المقبولة، وإصرارها على خروج روسيا من الشرق الأوسط، ولكن العالم بأسره يقول اليوم علانية إنه يجب على الولايات المتحدة الخروج من الشرق الأوسط.