الشعر والتنوير (1)
محمد راتب الحلاق
بداية، لابد من أن أعترف بأنني من الذين لا يميلون إلى إسناد أية وظيفة للشعر تقع خارج طبيعته، وطبيعة الشعر، بل طبيعة الفنون عموماً، تقوم على منح المتلقي المتعة، والجذل، والشعور بالكرامة الإنسانية، على أساس أن الفن خاصة إنسانية محضة، أقول ذلك دون أن أنسى أن الشاعر ليس منبتاً عن بيئته، وما يتفاعل فيها من أفكار وأحداث، وما ترنو إليه من آمال وطموحات، لأنه، ببساطة شديدة، جزء من تلك البيئة، ولا يمكنه، من ثم، الفكاك من المعطيات التي تقدمها له، كل ما في الأمر أن الشاعر لا يقوم، ولا ينبغي أن يقوم، بعمل المؤرخ، أو السياسي، أو الاقتصادي، أو الواعظ الأخلاقي، أو الداعية الأيديولوجي، لأنه يهتم بكيفية القول أكثر من اهتمامه بالمعنى، وبالشكل الذي يقترحه للمعنى أكثر من المعنى ذاته، وللقارئ أن يختلف معي، وأن يرفض كلامي.
ثم إنني أزعم بأن التنوير لا يقتصر على النواحي السياسية والوطنية والقومية والأخلاقية، كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ذلك أن تنمية إحساس الفرد بكرامته وحقوقه، وتنمية التذوق وترقيته عنده يدخل في شمول عملية التنوير، لأن الفن والشعر أحد تجلياته، خاصة من خصائص الإنسان، وتذوق الفن والشعر وحسن تلقيه يتناسبان مع مكانة الفرد الإنسانية في سلم الترقي والوجود الإنساني.
يقول الشاعر (عبد الباسط الصوفي): “ابحثوا في عمق ما ننتج، تلمسوا آلام الأمة التي نحن أول من شعر بجراحها، ألا تعتقدون أننا نقدم إليها من أحزاننا ما يجعلها تتذوق الجمال وتحس به إحساساً قوياً؟! أوليست يقظة الوجدان الفردي وفهمه للفن والجمال دليلاً كبيراً على اليقظة القومية؟!.. إن ذلك ما شهدناه في جميع النهضات القومية في التاريخ”.
وحسن التذوق، وحسن التلقي يجعلان الفرد قادراً على التقاط التوهج الشعري، ويساعدانه في تمييز الغث من السمين، كما يجعلانه على استعداد لتقبّل التطور وتجاوز الأشكال التي انتهت صلاحيتها الفنية، والتي لم تعد قادرة على الإدهاش وجلب المتعة.
ثم إن الشعر والفكر فعاليتان إنسانيتان (مختلفتان/ متطابقتان) في آن معاً، فالشعر والفكر هما الكلام الذي تتحدثه اللغة عبر الإنسان (حسب هيدغر)، وما الإنسان إلا موضع كلام تتكلم اللغة عبره (حسب لاكان)، فهما ينتميان إلى النظام اللغوي العام نفسه، لكن للشعر أفقاً مغايراً في شكل التجربة الإنسانية، فالشعر (تجربة جوانية)، في حين أن التجربة الفكرية ليست كذلك.
ثم إن النص الشعري يعتمد استراتيجية التصوير والإيحاء والرمز، في حين يعتمد النص الفكري على إقامة علاقات واضحة بين الدال والمدلول دون أية انزياحات لغوية، ملتزماً بما تواطأ عليه متكلمو اللغة، وما تم تقنينه في المعاجم وكتب النحو والصرف.
الشعر والفكر يختلفان إذاً من حيث شكل التعبير وأساليبه، إنهما يشتركان ويتفاصلان من خلال علاقة كل منهما باللغة، فالمفكر ينتج نصاً واضحاً لا لبس فيه، في حين أن الشاعر يخلق نصاً تكون اللغة فيه طرفاً أساساً وليست مجرد أداة توصيل نفعية، في النص الشعري تغدو الكلمة رمزاً أكثر مما هي معنى، وفعلاً لا ماضي له، يبدأ من التعامل الشخصي مع اللغة، وفي الشعر تتوهج اللغة، لأنه يمنحها حياة جديدة، بل حيوات جديدة، ويحمّلها من المعاني والتصورات أكثر مما تعوّدت أن تحمله، وأكثر مما في الأذهان عادة.