“قانون قيصر” وأمريكا اليائسة
علاء العطار
ما الغاية من قانون قيصر؟ بل ما الغاية من كل الحروب الأمريكية بجميع أشكالها في المنطقة؟ تزعم إدارة ترامب أن القانون وضع لـ “حماية المدنيين السوريين”، لكن الحقيقة أنه أقرب إلى إبادة جماعية للشعب السوري، إذ يفرض عقوبات شديدة الخطورة على حصول السوريين على الطاقة والغذاء والدواء، فأين هو من حمايتهم؟.
يأتي هذا “القانون” في وقت يواجه الوجود العسكري الأمريكي مقاومة شديدة في سورية والعراق، وينسحب حلفاء واشنطن من “التحالف” الذي تقوده في العراق، ويضعف حلفاء ترامب في لبنان والعراق نتيجة تهديداته والاضطرابات الاقتصادية، ناهيك عن التوترات الخطيرة بين واشنطن والدول الأوروبية بشأن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران والصين وروسيا، ومحاولة حلفاء واشنطن إعادة العلاقات مع دمشق، مثل الإمارات والكويت.
ينم تشديد الحصار على سورية في شكله هذا، وفي ظل الظروف والملابسات الراهنة، عن اليأس ويشكل علامة على فشل ذريع يحوم في الأفق. وإذا عدنا بالزمن لنرى مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي بدأه بوش وطوره أوباما وورثه عنهما ترامب، نجده اليوم في حالة مزرية جداً. لقد شهدنا ترامب، بداية، يتحدث عن انسحاب براغماتي من سورية، لكنه منذ أن اعتلى منصبه غاص بشكل أعمق في سلسلة من التدخلات الفاشلة في المنطقة.
لا يستمد قانون قيصر اسمه من أباطرة الرومان – الذين تحاكيهم غطرسة “الرجل البرتقالي” في واشنطن – بل من اسم عميل سوري خان بلده وأهله وعلق في دوامة خديعة دعائية قبل بضع سنوات. لقد استخدم صوراً مفبركة زعم أسياد الحرب على سورية أنها جثث ضحايا سوريين!!، أليست تلك هي الطريقة المعهودة التي يحاول بها أسوأ المجرمين – الولايات المتحدة وحلفاؤها – تشويه سمعة ضحاياهم – سورية والعراق وإيران، بل وحتى الصين – وصرف الانتباه عن جرائمهم المستمرة.
صمدت سورية تحت حصار شديد أمريكي وأوروبي لأكثر من ثماني سنوات، واكتسبت من الخبرة ما يمكنها من التكيف مع اللكمات كافة التي تسددها واشنطن دون أن تصيب هدفها، فأسلوب الحصار هذا، على اختلاف أوجهه وأقنعته، لم يتوقف منذ الخمسينيات، لذا علينا أن نسأل: ما الغاية من هذا الإجراء الجديد؟ يكمن الجواب في الحرب الاقتصادية الموسعة على المنطقة بأكملها، وفي خوف واشنطن من أن يفرّق حلفاؤها صفوفها من خلال تسوية علاقاتهم مع دمشق. هل هذا هو “الرمق الأخير” لمناورة “الشرق الأوسط الجديد” الخائبة؟ إن التصعيد في زمن الخسارة لا يشير إلا إلى جهد ضائع.
لا شيء من هذا يزيد الضغط على حلفاء سورية، مثل روسيا وإيران والصين وفنزويلا وكوبا، والتي تواجه جميعاً عدواناً اقتصادياً متشابهاً، بيد أنه يوجه بؤرة التركيز على حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والخليج العربي، فبعد أن أعربت بضع دول أوروبية عن استيائها من الحروب الأمريكية المتواصلة، أرسلت ممثلين عنها لمناقشة مسألة إعادة العلاقات مع دمشق. وفي الوقت نفسه، أعادت الكويت والإمارات (كلتاهما كانتا من رعاة الإرهابيين في سورية) فتح سفارتيهما في دمشق، وتحاولان الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار.
في الأثناء، منعت الولايات المتحدة وكالات الأمم المتحدة من تمويل مشاريع إعادة الإعمار في سورية، بما في ذلك المساعدة في إعادة إعمار مدينتي حلب وتدمر اللتين تعدان من التراث العالمي، وهو ما يتناقض بشدة مع تمويل اليونسكو لمشاريع إعادة الإعمار بالموصل في العراق (مع أنها لا تعد من التراث العالمي).
أشارت منظمة الصحة العالمية، منذ العام 2017، إلى أن العقوبات الأمريكية الأوروبية عطلت حصول السوريين على الأدوية الأساسية، بما فيها أدوية علاج الأطفال المصابين بالسرطان. وأصدر مُقرِّر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان تقريراً، في العام 2018 جاء فيه أن “سورية كانت تتمتع قبل الأزمة الحالية بأعلى مستويات الرعاية في المنطقة. وأن المطالب التي خلقتها الأزمة حمّلت المنظومة الحكومية طاقة فوق وسعها، وخلقت مستويات حاجة عالية فوق التصور. كما أضرّت إجراءات التقييد، خاصة تلك الموجهة نحو النظام المصرفي، بقدرة سورية على شراء الأدوية والمعدات وقطع الغيار والبرمجيات ودفع ثمنها. وعلى الرغم من وجود استثناءات، امتنعت الشركات الدولية الخاصة عن محاولة التغلب على العوائق لضمان قدرتها على التعامل مع سورية دون اتهامها بانتهاك إجراءات التقييد بغير قصد”.
اختار نظام ترامب – الغارق في مستنقع الجائحة التي قيل إنها حصدت أرواح 110.000 شخص في أمريكا وحدها، والذي أجهدته مظاهرات نشبت بعد أحدث سلسلة جرائم قتل قامت بها الشرطة الأمريكية العنصرية – هذه المرة، زيادة معاناة الشعب السوري، لكن الشعب يدرك أن ثمن الاستسلام أو الرضوخ سيكون باهظاً، وتدفعه في ذلك صور احتلال العراق وليبيا وغيرهما التي لاتزال ماثلة في الأذهان. لذا تسعى الولايات المتحدة، إثر عجزها عن إسقاط سورية، إلى منع البلدان الأخرى من مساعدتها في الاحتياجات الملحة أو في إعادة الإعمار في فترة ما بعد الحرب.
والأساس المنطقي هذه المرة هو إحياء إشاعة “قيصر” التي انتشرت في كانون الثاني 2014. حينئذ قام إرهابي فارّ أغرته مشيخة قطر بالمال (وقطر كانت ومازالت أحد المستثمرين الأساسيين في الإرهاب في سورية) بحركة دعائية استخدم فيها آلاف الصور المفبركة لجثث تحمل آثار تعذيب. ونشرت صحيفة “نيويورك تايمز” هذه الصور باعتبارها من داخل السجون السورية، مشيرة إلى أن عمليات التعذيب والتجويع والإعدام تجري بشكل منهجي هناك. لكن الصحيفة نفسها اعترفت أيضاً: “لم ينشر المحامون الذين كلّفتهم الحكومة القطرية، وهي عدو مبين للحكومة السورية، إلا عدداً قليلاً من هذه الصور، ولا يمكن التحقق من الادعاءات التي تشير إلى أصول هذه الصور بشكل مستقل”. لم يكن هناك سوى “شاهد” واحد، هو قيصر، الذي لايزال مجهول الهوية لسبب لا أحد يعلمه.. إذاً كان كلّ ذلك ملفقاً وباطلاً.
في وقت لاحق من العام التالي، 2015، كُشف المستور عن هذا العرض، وتبين أنه حيلة أخرى من حيل الحرب الدعائية، فقد اعترفت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، ومقرها الولايات المتحدة، بعد أن تمكنت من الوصول إلى ملف الصور، في إطار محاولتها الحفاظ على الرواية الأصلية، أن ما يقارب من نصف الصور كان “لجثامين جنود سوريين أو أفراد من قوى الأمن السوري”، أو “لضحايا التفجيرات واغتيالات ضباط الأمن والحرائق والسيارات المفخخة”، ما يدلل على أن كل الكلام عن 11.000 ضحية “تعذيب وتجويع وإعدام” مجرد كلام فارغ. والحقيقة الساطعة هي أن الأرضَ السورية صبغت من دماء الشهداء الذين قضوا نحبهم جراء أشكال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ونتيجة الحرب الدعائية الكاذبة.
يمدد قانون قيصر العقوبات الشاملة الحالية التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على سورية عبر التهديد بتجميد أصول أطراف ثالثة. وقبل ذلك، كانت واشنطن تعتمد على “التهديدات الشفوية والتحذيرات لثني الحكومات في أوروبا والخليج عن إعادة الانخراط السياسي مع دمشق” أو الاستثمار في سورية، حيث قالت وزارة الخارجية السورية: “إن قيام الإدارة الأمريكية بفرض هذا القانون يعتبر انتهاكاً سافراً لأبسط حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، ويجعل الإدارة الأمريكية تتحمل مسؤولية أساسية عن معاناة السوريين في حياتهم ولقمة عيشهم، وأن الإرهاب الاقتصادي ما هو إلا الوجه الآخر للإرهاب الذي سفك دماء السوريين ودمّر المنجزات التي تحققت بعرقهم ودمائهم”.
لا تكترث واشنطن لتأثير الإجراءات القسرية على الشعب السوري، لأن الحرمان والمشقة هما غايتها أساساً، وأكثر ما يغيظها أنه كلّما اشتدت عقوباتها زاد تعاون الشعب السوري وتلاحمه مع رئيسه في سبيل إفشال مخططاتها. وللولايات المتحدة تاريخ طويل في فرض إجراءات قسرية أحادية الجانب على دول مستقلة، على أمل إثارة القلاقل السياسية وبهدف إلحاق الأذى والضرر بشعوب كاملة. لقد اعترف المبعوث الأمريكي جيمس جيفري أن الانخفاض الأخير في قيمة الليرة السورية كان “نتيجة إجراءاتنا”، مهدداً الحكومة السورية بالحصار المستمر إن لم تقطع علاقتها مع إيران والمقاومة اللبنانية. لكن هذه العلاقات هي التي حالت دون أن تمسي سورية ليبيا أخرى أو عراقاً آخر، فلولا سياسة الدفاع هذه لملأت الشوارع السورية عصابات إرهابية تكفيرية، ولشهدنا، من بين أمور أخرى، افتتاح أسواق نخاسة.