المجتمع الأمريكي.. موروث عنصري ضدّ السود
د.معن منيف سليمان
تعدّ العنصرية ضدّ السود في المجتمع الأمريكي موروثاً تاريخياً وظاهرة معقدة تأبى أن تحل عقدها على الرغم من النضال المستمر للقضاء على التمييز العنصري منذ مطلع القرن التاسع عشر، ورغم نجاح الأمريكيين السود في القضاء على العبودية والفصل العنصري رسمياً فإن مجتمعهم ما زال يعاني حتى اليوم من مظاهر متخلفة ومشكلات عديدة بالمعايير الأمريكية، وما زال التمييز العنصري راسخاً في نفوس المواطنين البيض، إذ يلاقي المواطنون السود كافة أشكال العنصرية من المجتمع بالتشارك مع الدولة، حيث الاحتقار والإذلال، فكانت الأولوية للبيض في كافة الأمور. من هنا يصبح كفاح السود عملية مستمرة حتى ولو وصل أمريكي أسود لرئاسة البيت الأبيض، وعلى أمريكا أن تحسّن الأوضاع التي يعيشها مواطنوها السود قبل أن تتحدّث عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم، فهي تقيّم أوضاع الدول في مجال حقوق الإنسان في وقت تنسى فيه تقييم أوضاعها الداخلية، ما يمثّل مفارقة تثير السخرية.
منذ الحقبة الاستعمارية والحرب الأهلية الأمريكية، والعنصرية في الولايات المتحدة ضدّ السود متأصلة في مؤسسات الدولة لتحرص على التردي الدائم لأوضاعهم، وفي رواية “كوخ العم توم” ترصد لنا الكاتبة الأمريكية “هارييتستاو” معاناة هؤلاء السود عندما كان يباع الأب أمام أبنائه والأم أمام أبنائها، وكل يذهب إلى سبيله إلى ولاية أخرى وتنقطع أخبارهم عن بعضهم البعض، ورغم النضال الكبير من القس الراحل “مارتن لوثر كينغ”، ووصول مواطن أمريكي أسود “باراك أوباما” ليكون الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن كل استطلاعات الرأي تبين تغلغل العنصرية داخل المجتمع الأمريكي، وتبدو الأحداث الأخيرة بعد وفاة “جورج فلويد” دليلاً على استمرار العنصرية ضدّ المواطنين السود.
وفي رواية “أيا دوي الرعد اسمع صراخي” لــ”ميلدر دي تابلور” التي تعدّ من الروايات الحديثة التي تدور أحداثها في بداية عشرينيات القرن الماضي، وتحكي المؤلفة عن معاناة آبائها في تلك المرحلة الزمنية، وكيف يميز بين الأسود والأبيض في المدارس بحيث يعطي الكتاب المدرسي الجيد للأبيض، أما الكتاب الممزق وفي حالة سيئة فيعطى للأسود. ويكشف أحد أطفال السود هذه السياسة الممنهجة ضدهم من قبل المدرسة، ويرى على صفحات الورق جدول يبين حالة الكتب ولمن يوزع الكتاب، بحيث يظهر أن تاريخ الإصدار بتاريخ كانون الأول عام 1923، وهو بحالة جيدة يعطى للأبيض، أما الكتاب الذي بحالة ضعيفة جداً فيعطى لزنجي، وبهذا يبدأ أحد أبطال الرواية في الصراخ في وجه المدرّسة، ولكن أم الطفل الأسود في البيت توضح له أن هناك فرقًا بينهم وسوف تكبر وتعرف.
وعلى الرغم من تحسّن ظروف معيشة السود بشكل عام، إلا أن الفوارق لا تزال قائمة وصارخة، ويصعب القول: إن الأمريكي الأسود قد نال كل الحقوق والفرص المتاحة لنظيره الأبيض، وطبقاً لإحصاء عام 2014، بلغ عدد السود 42 مليون نسمة، أو نسبة 13 بالمئة من إجمالي عدد السكان، وتبقى المشكلات الكبيرة للسود الأمريكيين، ممثلة في عدّة ظواهر مقلقة، من أبرزها الفقر إذ يعيش 24.7 بالمئة من السود تحت خط الفقر، وتبلغ هذه النسبة 12.7 بالمئة على المستوى القومي الأمريكي، ويقصد بالفقر أمريكياً حصول عائلة مكونة من أربعة أفراد على أقل من 18.4 ألف دولار سنوياً.
إن تكرار حوادث المواجهات بين عناصر شرطة بيض وبين شباب سود وما ينتج عنها من أعمال عنف ومواجهات مختلفة في بعض الولايات والمدن الأمريكية تؤكّد أن الطريق ما زال طويلاً، ويعود طول الطريق لغياب أبسط قواعد “العدالة الاجتماعية” والمتمثلة في كيفية توزيع الدخل وتخصيص الموارد وإتاحة الفرص بين البيض والسود.
ويعبّر الظلم المجتمعي عن نفسه بصورة أكثر وضوحاً من خلال نظام العدالة ونظام المحاكم، حيث يتعرّض السود أكثر من غيرهم لرقابة الشرطة في الأماكن العامة، كما أن احتمال الحكم عليهم بالإعدام يبلغ أربعة أضعاف احتمال الحكم على البيض في الجرائم المشابهة. ونسبة السود بالسجون الأمريكية تبلغ 43 بالمئة رغم أن نسبتهم للسكان تبلغ فقط 13بالمئة، ويسجن الرجال السود مرّة واحدة على الأقل في حياتهم. كما أن الطبقة لا تحمي السود من العنصرية فهم يتعرضون للحبس مدّة أطول، والسجن المبالغ فيه للسود بشكل عام هنا يؤدّي إلى غياب ممارسة هؤلاء لحقوقهم المدنية والديمقراطية، لأن السجناء لا يستطيعون الإدلاء بأصواتهم، وبعض السجناء الذين انتهت مدّة سجنهم أيضاً لا يمكنهم التصويت في بعض الولايات، كما أنه يتم منع هؤلاء من وظائف كثيرة نظراً لتاريخهم الجنائي.
كان إنهاء الفصل العنصري السكاني مطلباً أساساً للنشطاء الحقوقيين مثل “مارتن لوثر كنغ” الذي شارك عام 1966، في تظاهرات بـ”شيكاغو” التي كانت واحدة من أكثر المدن الأمريكية فصلاً عنصرياً، واليوم، وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً من تمرير قانون الحد من الفصل العنصري السكاني، ما زالت مدن أمريكية كثيرة منقسمة عنصرياً، ويقول الباحث والخبير الأمريكي “ريتشارد ريفيز” في مقال له نشر على موقع معهد “بروكينغز” للدراسات والأبحاث السياسية: “إن ممارسة القتل ضدّ الأمريكيين السود، وما يترتب على ذلك من ردود فعل غاضبة بين السكان السود، ما هي إلا تداعيات تظهر على السطح، بعيداً عن تلك التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للتمييز العنصري في المجتمع الأمريكي بمفهوم أوسع وأشمل”.
والرئيس “ترامب” من جانبه يلعب بكل هذه الأوراق، ويعتمد على تأليب الأمريكيين بعضهم على بعض. وقد رافق خطاب العنصرية والكراهية حملة “ترامب” لانتخابات الرئاسة منذ انطلاقها عام 2016، ليكشف عن شيء مثير للاهتمام بشأن “ترامب”، فقد كان من الواضح أنه مستعد لاستغلال قضايا العرق لصالحه منذ اليوم الذي أعلن فيه ترشحه. وقد نظر بعض المحلّلين إلى انتخاب “ترامب” في عام 2016، كرئيسٍ للولايات المتحدة على أنّه ردّ فعلٍ عنصريّ ضدّ انتخاب “باراك أوباما”.