ضحكة حريرية تشعل شمسي
سلوى عباس
رحلت بها الذاكرة إلى أيام كان الحب يرش نداه على روحها والحيرة التي كانت تنتاب رفيق روحها وهو يحاول استكناه الحزن الذي يقرأه في عينيها دون أن يهتدي لطريقة لفك ألغازه، متوسلاً أن تبوح له بعضاً من وجعها، لعله يستطيع أن يخفف عنها، لأنه نصفها الذي يفترض أن يشاركها كل تفاصيل حياتها. قال لها: في لحظة سماع صوتك الهديل.. أحس روحي تزاحمني كي تحكي لك وتبوح.. كي تلامس الأثير في صوتك العذب الرقيق، لأنك الحلم الذي أمر إلى مصباحه الحاني أتزود منه ما يعينني على يوم ترسمي تفاصيله بضحكتك وهمسك، فامنحيني فسحة صغيرة في قلبك أزرع فيها البنفسج معطراً بالبخور لتمكثي قربها وتهنأي، فحيثما تكونين ترافقني موسيقاك الحنونة، فأشتري لك النرجس البري، وأبحث عن أشجار الصنوبر لأطوف بك في عبقها.. أنا سجين الفراغ والحيرة.. اشتقت إلى تحليقك الاستثنائي في فضاء روحي.. اشتقت أن أعيشك وأتنفسك أكثر، وأن أتوحد بك.. حين أسمعك.. لا أسمع الصوت، ولا يدهشني الكلام، لأني حينها أكون في حالة إنصات لقلبي وروحي تلامس خلاياك وتداني خلجاتك، أكاد أعرف ما تسرين.. يبوح لي شهيقك بحزنك المستور، أرجوك أفصحي لي وأخبريني عنك ودعيني أشاركك ذاك الحزن علنيّ أزيح معك وعنك ذاك الكمد، وعليّ أستطيع أن أرش على روحك الزهر والنور، وأمسح عن شعرك التعب.. وعليّ أستعيدك من لجة الرمل إلى استكانات البحر، والى الربا التي زرعناها معاً حقولا من الياسمين وأيكاً من عناقيد المسرة، كلما فكرت أني غادرتك أجدني أسير إليك.. صرت لي الدنيا التي أعيشها.. والأيام التي تمضي وكل ما أحس به.. وكل ما سيأتي.. إذا غاب حضورك عني، تتفجر ملامحك حولي في كل ما أرى وما لا أرى، ويغطي طيفك الذي أحب صفحة السماء والتواءات الأرض وذرات الهواء.. صورتك ممدودة على الأفق.. والتماع عينيك يمهد لي الطريق.
****
يا لصورتها.. يا للظلال الرمادية التي حوت أمامه موسيقى وأشعاراً وأقواس قزح.. كلما مد إليها يده كلما ابتعدت في ضباب سحابة الوقت، وسرقته إليها لواعجه، غارقاً في سديمها الفضي مبعثراً بينه وبين نوازعه، متمسكاً بطيفها على الورق، تشده إليها سنابل شعرها المتناثر بين أشواق المسافة واتساع الحنين، متقافزاً وراءها كطفل يطارد فراشة الربيع الملونة، فلا التعب يهمّه ولا الأشواك التي تخدش قدميه، كلما وضع صورتها أمامه تنهمر آلاف اللحظات وتغمره ابتسامتها الخجولة بفيض من حنان.. يمد يده إليها عبر الطيف ليلمس يدها اليمنى فيفاجئه الورق والتماع الصورة ويقف عاجزاً عن اللقيا.. توقظه أشواقه أن هذا لا يكفي.. فلا الورق يوصل دفئها إليه أو تحييه نعومة أصابعها.. الورق يحجب عنه سماع أنفاسها وحرارة حروفها، كما طاولة عرضها السموات والأرض تفصل بينه وبينها، يراها ليس إلا، يلوّن الدنيا بعينيها كي يذوب بها، ويغمر الربيع برائحتها الرائعة كي يعيش بها.. فكتب لها: كم أتمنى أن يسرقني الوقت فألحظ وكأني أفاجأ بالشمس أخذت مني هموم الانتظار، وأهلّت لحظة انطلاقي إليك كتائه يبحث عن ضالته فيبدو أهوجاً في خطوه متسرعاً في حركاته.. كم أشتهي أن تسكني قلبي لا يعد الوقت عليّ نبضاتي، لأني ركنت الزمن زاوية الإهمال، وأغمض عينيّ عليك فلا زمن يجري ولا الأمكنة لها حدود، كم أشتهي أن أضمك إليّ لحظات تعيد توازن الكون، وتنشر ضياءك في مساحاتي وكل ثناياي فلا يعود للحياة إلا طعم الحب.. كل ما في الكون هادئ ومستكين، ووحدي أطوي ساعات اللهب المضطرم في مسمعي، وأهدئ البال عن اندلاعاته المجنونة.. مرهونة مسامي للرنين ولتلك الضحكة الحريرية تشعل شمسي، ولكلمات تعلن عودة الحياة.