أسعد الجبوري شاعر ضائع في المنافي!!
أسعد الجبوري، وأعتقد أن اسمه ليس أسعداً، إنّه “يوسف يا أبي”، لاجئ عراقي في سورية، وعمل في جريدة المسيرة يدير شؤونها الثقافية. وُلِدَ عام 1951 في بغداد، ويقول عن نفسه:
“أنا يوم فائض من السنة/ يجلس القرفصاء/ تحت النافذة الوحيدة المحطمة/ كبحر بلون السؤال حين ينتفض قبل انحناء علامة الاستفهام”.
شاعر وروائي، يعيش في الدانمرك مع أسرته منذ عام 1989، وفد أصدر مجلة “طقوس” ويرأس تحريرها، عضو اتحاد الكتاب العرب، مغامر في لغة الشعر، يقود تجربة قلقة، ينفرد عن غيره من الشعراء في لغة الشعر، لأنه يقف على نقيض من كافة الكتابات الشعرية، رأى في قصيدته التي يكتبها حريته المفقودة، يقاتل على عدّة جبهات، لينسف لغة الإنشاء التي يقوم عليها الشعر العربي، إنه يريد الانزياح عن نسق البلاغة العربية التقليدية، ويريد تدمير القوالب الشعرية، فيستخدم المخيلة الشعرية إلى أقصى حدودها، شاعر متمرس، فهو يترك للقارئ فراغاً حين يقرأ قصيدته دون أن يملأه بالصورة ليتخيل هذا القارئ ويتأول، ويكشف ستر العقل “اللغة يجب أن تحرر نفسها من نفسها، وأن تكون كلّ مفردة، كلّ كلمة، لها إيقاعها في النفس”، لقد أراد إنقاذ اللغة الشعرية من الرمد والظلام، وخرج من جسد الشعر ليكون في حواس اللغة العميقة، إنه يسعى إلى تطهير نصّه من الغبار والفضلات، ونحن أمام شاعر يغامر بالمفردات ويتعامل معها بعيداً عن المألوف للمتكرر والاستهلاك الشعري الذي يغطي المشهد الشعري العربي بصورة عامّة، والعراقي بشكل خاص. يحتاج إلى قراءة متأنية وإلى قارئ ملم بالأبعاد الثقافية، والمشهد الميثولوجي والمورث الديني، إنه يخترق المألوف، بنسيج أسطوري، يجمع بين الواقع والهلوسة العميقة، كأنه يموت بعد الكتابة، وكأن الكلمات تحاصره، وهو يكتب حين يخرج من السكون إلى الديمومة، لا هوية محدودة في كتاباته.
“الحديث عن تجربتي الشخصية، تبدأ من نقطة واحدة: وهي أنني مررت بمنازل الشعراء وهربت، وأكملت هروبي من الجميع، إنهم أسماء منتفخة ونصوص بلا رقاب”. إنّ نصوص أسعد الجبوري تدعو إلى الدهشة والاستغراب، والتذمر واليأس:
“لقد بات البيت منفى/ والوطن منفـــــــــــــى/ وبات الحب منفى هو الآخر”
يختلق طاقة شعرية تعبيرية قادرة على تحويل الأصوات والرموز والإشارات إلى حقول بصرية ممكنة وشائعة، يغوص في مجاهيل اللغة وغريبها ودهشتها، يريد كلّ مفردة يكتبها أن تدهش القارئ، وتلهيه عن طعامه وشرابه، وعن نفسه، إنّه يرتكز على حقل معجمي غني واسع من المفردات اللغوية، “أنا أمارس حروباً متعدّدة ضد الكون اللغوي”. واللغة عنده هي: “قطار الشرق السريع، تندفع نحو الحقول، وتكنس الأصنام”.
يغوص في مجهول اللغة وإلى الآن لم يكتب الشعر ذاته، يسلّم نفسه إلى وهج اللحظّة، ويرمي القنابل في سهول التعبير، فالنصّ عنده مسلّح بتركيبات لغوية مكثفة وإلى الآن عنده “عراّفة” تخرج من أتون السحر والخرافة، إنّه يرمي بالذائقة الجمالية، يقول:
“أنا معني بالمدى الذي توفره لي اللغة لأصنع منها طيراً خارج القفص أو سمكة بعيدة عن الأكوار يوم وذكرياته السوداء”.
إنّه شاعر ما بعد السريالية، والسريالية الغربية سهم في هواء النصّ، وهي في النصّ العربي عربة بعجلات لا تزال مربعة أو مثلثة. وفي الفترة الأخيرة راح يلاحق الشعراء الكبار، فأصدر موسوعة: “بريد السماء الافتراضي” وهو عبارة عن سلسلة حوارية مع شعراء لم يعودوا معنا على هذه الأرض، وإنما يكونون في برذخ بعيد بين طبقات السماء، قرأ شعرهم، وسيرهم الذاتية، رفع النقاب عن الفضائح وكشف الأسرار عن الأمور التي يخفونها والتي طالما حاول هذا الشاعر أو ذاك التستر عليها يوم كان من سكان هذه الأرض.. إنّها محاولة لتحريك عضلات الشعر وخلق طقوس معاصرة لشعراء الزمن الغابر وسعي لمكافحة النسيان الذي يتعرض له الشعراء، من عرب وأجانب، منهم: محمّد الماغوط، أنسي الحاج، أرتور رامبو، أمل دنقل، أوكتافيو باث، عزرا باوند، محمّد مهدي الجواهري، نزار قباني، هوميروس، محمود درويش.. إلخ.
إنه يتقمص أرواحهم وأجسادهم وهواجسهم وتخيلاتهم وكوابيسهم وأحلامهم المحقّقة والمجهضة، حتى إنّه يأكل ويشرب معهم، حول مأدبة شعرية، يعترف الجبوري “بأنّ للكتابة أرض شاسعة لممارسة الألعاب النارية، فكلما اتسعت الحرائق تزداد أثار المبدعين جلجلة وخصوبة واندفاعاً”.
يفتح مدافن الشعراء، ويضعهم فوق مشرحة لإعادة إنتاج أعظم رموز الشعر، وكذلك قام الجبوري بوضع كتاب “انطولوجيا الرواية العربية” وهو السجل التاريخي للسرد، والكتاب عمل مهم وخاص بالروائيين العرب، على فترة تمتد على مدار نصف قرن من الزمان.
إنك تقف مدهوشاً بما يكتب، ولا تعطي حكماً، لا معه ولا ضده، عناوين كتبه صادمة، إنّه يبحث معك عن شعراء نائمين فوق الغيم.
فيصل خرتش