سد النهضة بين المعلن والمستور!
الدكتور سليم بركات
يعدّ نهر النيل أطول نهر في العالم، إذ يبلغ طوله 6670 كم من المنبع في بحيرة فيكتوريا وحتى المصبّ في البحر الأبيض المتوسط، وله رافدان النيل الأزرق والنيل الأبيض، الأبيض ينبع من منطقة البحيرات في وسط أفريقيا، والأزرق يبدأ من بحيرة تانا في أثيوبيا، ليجتمع النهران عند العاصمة السودانية الخرطوم، ويغطي حوضه 3،4 ملايين كم مربع من الأراضي، في عشر دول أفريقية هي من المنبع حتى المصب (تنزانيا، جمهورية الكونغو الديمقراطية، أوغندا، كينيا، بوراندي، راوندا، أثيوبيا، السودان، مصر، وأريتريا بصفة مراقب).
سد النهضة سد أثيوبي على النيل الأزرق بولاية (بني شنقول) بالقرب من الحدود الأثيوبية السودانية بمسافة تتراوح بين20 و40 كم، يقع في منطقة تغلب عليها الصخور البركانية، وتشبه في تكوينها جبال البحر الأحمر من حيث تواجد المعادن (الذهب، البلاتين، الحديد، النحاس، إضافة إلى محاجر الرخام). ويعدّ من أكبر السدود الكهرومائية في القارة الأفريقية، حيث يحتل المرتبة العاشرة في قائمة أكبر السدود العالمية إنتاجاً للكهرباء، تقدّر كلفة إنجازه بـ4،7 مليارات دولار أمريكي، ويتسع لـ 74 مليار متر مكعب من المياه، في منطقة قابلة للتعرض للزلازل والهزات الأرضية، ومن مخاطره تأثيره على تدفق مياه النيل ولاسيما على مصر بالدرجة الأولى.
كلّ من يظنّ أن مشكلة سد النهضة بين مصر وأثيوبيا مشكلة عابرة مخطئٌ لسبب واحد، هو أن المشكلة قديمة منذ المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في بال بسويسرا عام 1897، حيث المحاولات الصهيونية الأولى للاستفادة من مياه النيل التي بدأت مع التفكير الصهيوني الاستيطاني في الوطن العربي، محاولات ظهرت بوضوح في عام 1903 عندما قدّم “هرتزل” للحكومة البريطانية اقتراحاً لتوطين اليهود في سيناء، والاستفادة من مياه النيل، وعاد هذا المقترح ليلقى الاهتمام مرة ثانية من خلال محادثات كامب ديفيد بين مصر و”إسرائيل”، حيث قدم “شاؤول أولزورو” المسؤول في هيئة المياه الإسرائيلية آنذاك للرئيس المصري أنور السادات مشروعاً يهدف إلى استفادة “إسرائيل” من مياه النيل عبر قنوات تحت مياه قناة السويس، وكي تكتمل القيود على مياه النيل سعى الصهاينة إلى إحكام السيطرة على عددٍ من الدول التي تدّعي أنها المنبع لهذا النهر، كذلك الدول الواقعة على مسيره حتى مصبّه في البحر الأبيض المتوسط.
من هذا المنطلق سعى الكيان الصهيوني إلى الارتباط مع هذه الدول بمعاهدات واتفاقيات عسكرية، واقتصادية، وأمنية، وكان الأهم من كلّ هذا إيجاد مشاريع مشتركة بين “إسرائيل” وهذه الدول (سدود، تسليح، اتصالات، استشارات أمنية، تعاون دولي..)، وبالتالي نجحت “إسرائيل” وبمساعدة أمريكية في سيطرتها على الكثير من مشاريع الري في منطقة البحيرات، من حيث تقديم الدعم التكنولوجي والفني والهندسي من قبل الشبكات الإسرائيلية، ولقد تجلّى هذا الدعم بتقديم دراسات تفصيلية زودت بها زائير، وراوندا لبناء السدود وإحكام السيطرة على مياه البحيرات العظمى، زد على ذلك شراء “إسرائيل” لسندات أسهم بناء سد النهضة، الذي لم يكن سوى الحلقة الأخيرة من المخطط الإسرائيلي، هذا إضافة إلى اجتماعات أخرى عُقدت بين وزراء إسرائيليين وإثيوبيين، تضمنت الاتفاق على مشاريع مشتركة عند منابع نهر النيل في أثيوبيا، مشاريع سدود لتوليد الكهرباء، وجر المياه وضبط حركتها باتجاه السودان ومصر.
كل ذلك يؤكد أن حروب المياه المستقبلية في المنطقة هي حروب إستراتيجية بالغة الخطورة والجدية، وعلى العرب أن يولوها الاهتمام المطلوب، ومن منطلق أن الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية منفلتة ومن دون ضوابط، ولا نبالغ إذا قلنا إن هذا الاهتمام الإسرائيلي بالمياه العربية قد بدأ منذ مؤتمر “سان ريمو” في إيطاليا عام 1920 والذي قُسّمت فيه سورية الطبيعية. اهتمام مازال يتصاعد حتى يومنا هذا، ويشمل إضافة إلى مياه النيل مياه الأردن حتى جبل الشيخ وقطاع حوران، حتى نهر الأعوج جنوب دمشق، كما لا نبالغ إذا قلنا إن تركيا الحليف الاستراتيجي لـ”إسرائيل” قد استوعبت الدرس ودخلت حرب المياه مع سورية والعراق، وهي تقوم بقطع مياه الفرات ودجلة، مستغلة ظروف الحرب الكونية على سورية والعراق، ولاسيما بعد مجيء ترامب إلى البيت الأبيض حيث السيطرة الأمريكية وكسر الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية. كل هذا وغيره كان من خلال الخيارات العربية الخاطئة منذ اتفاق “كامب ديفيد” وحتى يومنا هذا، كيف لا وجزر “الدهلك” الإريتيرية باتت ملكاً للصهاينة، وجزر”الفرسان” السعودية المقابلة لجزر “الدهلك” باتت فاقدة المفعول في ظل تقدم “إسرائيل” على شواطئ البحر الأحمر، كيف لا ومصر قد تخلّت عن جزر”تيران” و”صنافر” للسعودية خدمة لمصالح “إسرائيل”، الأمر الذي يؤكد أن بناء سد النهضة لم يكن إلا محاولة للضغط على القرار العربي وفي الطليعة القرار المصري، ليتمّ العمل على احتلال ميناء الحديدة اليمني، كي يصبح البحر الأحمر بتصرف الصهاينة!.
يتمحور الخلاف بين مصر وأثيوبيا فيما يخصّ سد النهضة حول فترة ملء السد بالمياه وكيفية تشغيله، وتطالب مصر بأن تمتد فترة الملء هذه إلى عشر سنوات مع الأخذ بالاعتبار سنوات الجفاف، بينما تتمسك أثيوبيا بفترة سنتين إلى ثلاث، وفي أقصى الحدود ما بين أربع وسبع سنوات، الأمر الذي رفضته مصر مطالبة أثيوبيا بعدم ملء السد دون موافقتها، وهذا ما رفضته أثيوبيا مما أدى إلى خلق العثرات في طريق التفاوض. والملفت للنظر هو استمرار أثيوبيا في موقفها المتعنت من ملء السد دون الاتفاق مع مصر، ما دفع مصر للجوء إلى مجلس الأمن الدولي للتدخل، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا سيبقى لمصر من خيارات إذا ما بقيت أثيوبيا على موقفها هذا ؟ لتكون الإجابة إن إعلان أثيوبيا الاستعداد لملء السد بشكل أحادي يفاقم من الأزمة ويدفعها نحو الطريق المسدود، كما أن المماطلة وترحيل الأزمة من اجتماع إلى آخر، ومن مكان إلى غيره، بهدف كسب الوقت من وجهة النظر الأثيوبية، ليس لاستكمال السد فحسب، وإنما لملء خزانه ووضع مصر والسودان في حكم الأمر الواقع. وهل نبالغ إذا قلنا إن هذا السلوك الأثيوبي هو استفزاز غير محسوب العواقب كونه يهدّد الأمن الإقليمي، بمعنى إن ما يجري من مفاوضات ليس سوى تلاعب بالماء والأمن المائي، ومن أجل هذا التلاعب ترفض أثيوبيا مناقشة الجوانب القانونية، وإبرام اتفاقيات ملزمة وفق القانون الدولي، وتتمسّك بقواعد إرشادية يمكن لها تعديلها بشكل منفرد، ولهذا ترفض مصر أي اتفاق مع أثيوبيا خارج رعاية الأمم المتحدة، حتى يصبح حاكماً وملزماً على مرّ الأجيال القادمة، إن تنفيذ أثيوبيا قرارها بملء السد بعيداً عن الاتفاق مع مصر والسودان، يمثل إعلان حرب من وجهة النظر المصرية، وهو كذلك.
بقي أن نقول: تمرّ مصر اليوم بمرحلة حرجة مع اقتراب فشل مفاوضات سد النهضة من جهة، وتعقيدات الأزمة الليبية من جهة أخرى، والتي لم تجد حتى الآن طريقاً لحلها، ما يرفع منسوب الحديث عن الخيارات العربية وفي طليعتها الخيارات العسكرية المصرية لإيقاف زحف حكومة الوفاق المدعومة من تركيا باتجاه حدود مصر الغربية، ولإجبار أثيوبيا على وقف ملء سد النهضة لحين التوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف. وما من شك بأن الجيش العربي المصري قادر على حماية حقوق مصر العربية بكل السبل الممكنة، أكانت هذه السبل في إطار الحلول السياسية، أم كانت في إطار الحلول العسكرية، والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم: أين الموقف العربي من كلّ ما يجري على الساحة العربية؟!.