دراساتصحيفة البعث

جاذبية روسيا تلهم المثقفين الألمان…

عناية ناصر

في ألمانيا هناك مؤيدون بارزون لروسيا، فقد اتهم هورست تيلتشيك الغرب بأنه “مهووس” بتحميل فلاديمير بوتين كلّ شرور السياسة العالمية، كما استنكر يورغن تودنهوفر “أبلسة” روسيا. وفي مجموعة من المقالات التي حملت عنوان “لماذا نحتاج إلى السلام والصداقة مع روسيا؟” دعا سياسيون سابقون من مختلف الشرائح -بما فيها المحافظة- إلى علاقات أكثر دفئاً مع روسيا.

يمكن أن تكون المشاعر المؤيدة لروسيا مثيرة للقلق، خاصة فيما يتعلق بأوكرانيا، لكن يشبّه الساسة اليساريون طريقة ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم بأسلوب “حزب البديل” اليميني في ألمانيا حين يؤكد أنه لطالما كانت القومية الألمانية تميل إلى النظر إلى دول أوروبا الشرقية على أنها مجرد إزعاجات يجب التعامل معها من قبل القوى العظمى.

لا شيء جديداً

بدءاً من القرن التاسع عشر، طوّر عدد من المفكرين الألمان البارزين صورة أسطورية ساحرة لروسيا تذبذبت بين الخوف والإعجاب. فمن جهة، كان يُنظر إلى روسيا على أنها أجنبية، وأنها تهديد، لأن الدولة الشاسعة كانت “غير حضارية” تحكمها الغرائز البدائية. في الوقت نفسه، كانت تلك الخشونة المزعومة واللاعقلانية على وجه التحديد هو ما كان يُعتبر في كثير من الأحيان تعبيراً عن النقاء الروحي والأخلاقي غير المحدود لـ”الشعب الروسي”. رأى آرثر مولر فان دن بروك، السلف الفلسفي لتيار فكري يميني سُمّي “الثورة المحافظة”، في كل من الروس والألمان، في بداية القرن العشرين، تناقضاً صحياً مع الغرب العقلاني ذي التوجه المادي. بالنسبة له، كانت كل من روسيا وألمانيا قوة حضارية جديدة إيديولوجياً ومليئة عاطفياً. وقد ساهم بعض من أعظم عقول الحياة الفكرية الألمانية في هذه الحيرة المثالية لروسيا؛ ففي عام 1888، أطلق فريدريك نيتشه على روسيا صفة القوة الوحيدة التي لديها القدرة على التحمّل، والتي يُمكنها واقعها الحالي من أن تنتظر، والتي يمكن أن تعد بشيء. لقد مثلت روسيا لنيتشه نقيضاً للخصوصية الأوروبية المثيرة للشفقة والعصبية، وحتى الغرب ككل لم يعد لديه تلك الصفات التي تنمو من خلالها المؤسسات. وفي عام 1920، قال الشاعر راينر ماريا ريلكه إن روسيا “جعلتني ما أنا عليه!”.. وجد ريلكه “أصله الداخلي” في روسيا “أرض الله غير المكتملة، حيث يتدفق من كل إيماءات الناس دفء مثل نعمة لا نهاية لها.

كما توصل توماس مان، في كتابه “تأملات رجل غير سياسي” في عام 1918، إلى مخطّط تضاد ثقافي تاريخي من نوع ما: الألمان والروس من جانب والديمقراطيات الغربية من جانب آخر. ولأن الثقافتين الألمانية والروسية قاومتا الإمبريالية، والحضارة العقلانية اللاروحية للغرب، تجمع كلا الشعبين علاقة روحية عميقة. ولهذا السبب أسيء فهمهما باستمرار وتمّت مضايقتهما من قبل الغرب. بالتأكيد قام مان بتعديل موقفه السلبي تجاه الديمقراطية والقيم الغربية مؤخراً، لكن البذور المبكرة لهذه الذهنية ظلت ظاهرة بشكل واضح.

روسيا وألمانيا ضد الغرب

والأكثر من ذلك، أن أجزاء كبيرة من اليمين القومي الألماني، إبان فترة جمهورية فايمار، كانت تعتقد أن ألمانيا وروسيا اتحدتا في الكفاح ضد الغرب، ورأى “البلاشفة الوطنيون”، مثل مولر فان دن بروك، والصحافي إرنست نيكيش، الذين انتقلوا من أقصى اليسار إلى اليمين المتطرف، ثم عادوا مرة أخرى، في ثورة أكتوبر “ثورة شعبية” من قبل الشعب الروسي ضد الحضارة الغربية، وبالتالي نوعاً من أنموذج “لثورتهم الوطنية” القادمة. وبالمثل، احتفل جوزيف غوبلز في سنواته الأولى بـ لينين كزعيم قومي روسي عظيم. وبعد الحرب العالمية الأولى، تعاون الجيش الأحمر والرايخ الثالث في التسليح السري لألمانيا، ولكن كراهية هتلر العنصرية لجميع السلاف جعلت من المستحيل تنفيذ رؤية تحالف روسي ألماني ضد الغرب في أيديولوجية اشتراكية قومية، ولكن مع ميثاق هتلر ستالين في الفترة 1939- 1941، عاد هذا المفهوم ينبض بالحياة مرة أخرى.

استمر حلم الثقل الألماني الروسي الموازن لـ”الغرب المنتصر” إلى ما بعد نهاية النظام النازي، واتخذ هذه المرة شكل تطلعات محدودة من اليسار واليمين. لقد كان حاضراً، على سبيل المثال، في “حركة السلام” الألمانية التي حشدت مئات الآلاف من المحتجين ضد إعادة التسلح النووي لحلف الناتو في أوائل الثمانينيات، ولم يختف بعد نهاية الحرب الباردة. وهناك ميل اليوم في العقلية الألمانية إلى أن الفضل في إعادة توحيد ألمانيا يعود بشكل رئيسي إلى ميخائيل غورباتشيف، وليس إلى قوة وجاذبية الديمقراطيات الغربية. في الواقع، يجب على المرء أن يتساءل عما إذا كان اندماج ألمانيا في الغرب مقبولاً بالكامل من قبل أجزاء من المجتمع الألماني.

تنعكس هذه الاتجاهات التاريخية في بعض الأحيان في العداء الخفيّ لأمريكا، والذي ظل مستمراً في الجمهورية الاتحادية منذ نشأتها، ليس فقط في التطرف الإيديولوجي، ولكن أيضاً في الوسط السياسي والاجتماعي. إن الخوف الذي يراه البعض مشروعاً تجاه الطموحات التوسعية للشيوعية السوفييتية، وما صاحب ذلك من اعتماد على الولايات المتحدة للحماية، كبح أسوأ ما في الأمر. لكن خلال الحرب الباردة، كانت معاداة الولايات المتحدة قد عبّرت عن نفسها بشكل غير مباشر، كإحساس بالازدراء الثقافي للولايات المتحدة “السطحية” والتي “بلا روح”، والتي كرّست، وبلا حدود، قدسية المال والاستهلاك. أما في روسيا، كما يعتقد الكثير من الألمان، فيجد المرء العكس: أمة مثقفة تقدّر مُثُل الشعراء والفنانين والمثقفين.

عزّزت ذاكرة سياسة الانفراج في السبعينيات والثمانينيات القناعة في ألمانيا بأن روسيا هي أساساً قوة محبة للسلام، ولا غنى عنها لضمان الاستقرار في أوروبا. ويبدو أن الدعوة إلى الشراكة مع موسكو لها جاذبية خاصة بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي، ولا يزال التوق إلى الوئام في العلاقات الألمانية الروسية قوياً اليوم.

سياسة متناقضة

سياسة الحكومة الألمانية الحالية تجاه روسيا متناقضة للغاية؛ وبفضل أنجيلا ميركل، قام الاتحاد الأوروبي بمواجهة الدور الروسي في أوكرانيا بنظام عقوبات موحد. لكن، وفي الوقت نفسه، أوضحت برلين دائماً أن “حوارها” مع الكرملين يجب أن يظلّ أولوية على جدول أعمالها، وأن تدابير مثل شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا -والتي يمكن أن تعرض العلاقات الألمانية الروسية للخطر– لا تشكّل عائقاً أمام ذلك. وأكثر من ذلك، أكدت ميركل في مؤتمر ميونيخ الأمني، في شباط الماضي، دعمها لمشروع خط أنابيب الغاز “نورد ستريم2” في وجه معارضة قوية ليس فقط من الولايات المتحدة، ولكن أيضاً من بروكسل وعدد من الدول الشريكة للاتحاد الأوروبي، كما طالبت بضرورة عدم “استبعاد” روسيا عن الشؤون الأوروبية تماماً.

أحد الجوانب الأكثر تناقضاً في الموقف الألماني اليوم هو أن التعاطف مع بوتين يتركز في الأجزاء الشرقية من البلاد التي كانت ذات يوم تحت الحكم السوفييتي، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بشيء مثل متلازمة ستوكهولم، إذ كلما زادت خيبات الأمل في الرأسمالية الحقيقية الحالية، ظهرت استبدادية الماضي أكثر وردية؛ ما يعني أنه على الرغم من التزام برلين بالعقوبات ضد الكرملين، إلا أن الضغوط المؤيدة لروسيا تتصاعد، حيث تقوم الشركات والبنوك الألمانية -بدعم من الحكومة الفيدرالية- ببذل قصارى جهدها لتقليل تأثير العقوبات من خلال توسيع العلاقات الاقتصادية الألمانية الروسية، وقد شهد الافتتاح الكبير لمصنع جديد لشركة ديملر للسيارات بالقرب من موسكو وقوف وزير الاقتصاد الألماني بيتر التماير إلى جانب بوتين، معلناً أنه لا ينبغي لأحد أن يتحدث عن إجبار روسيا على الرضوخ اقتصادياً، وأكد أن روسيا ناجحة ستكون في مصلحة ألمانيا.. “نحن نثق بروسيا.

تتمسّك الحكومة الفيدرالية بـ”نورد ستريم2″، على الرغم من أن المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية DIW توقع أن هذا المشروع لن يكون مجدياً اقتصادياً، ما يعني إنها مستمرة في سياستها على الرغم من أن الكرملين أوضح منذ فترة طويلة أنه لا ينوي الحفاظ على أوكرانيا كدولة عبور للغاز الروسي إلى أوروبا الغربية، رغم أن برلين تطالب بذلك.

يدلّ ذلك على أن الاعتبارات المنطقية لا تلعب دائماً الدور الأول عندما يتعلّق الأمر بالعلاقات مع روسيا، سواء في السياسة الألمانية أم في الاقتصاد الألماني. لكن روسيا تعمل، من جانبها، وفقاً للوعي الألماني كنوع من “الخيار” المتخيل والمبدئي والحاضر دائماً، والذي يمكن تفعيله إذا أصبحت النزاعات المختلفة مع الحلفاء الغربيين أكبر من اللازم، خاصةً وأن العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية مع الولايات المتحدة لاتزال قوية للغاية بحيث لا تسمح لألمانيا بالابتعاد، في الوقت الحالي، لكن لا يمكن استبعاد ذلك إلى الأبد.

من غير المرجح أن يحدث تغيير بعد مغادرة المستشارة أنجيلا ميركل، ولكن ضغط “محبي بوتين” -العلامة التجارية الجديدة في ألمانيا- سيزداد بالتأكيد، وقد يؤدي إلى مزيد من التهاون في المواقف تجاه روسيا. وإذا استمر الاتحاد الأوروبي في التفكك، فمن المحتمل أن القوميين في ألمانيا، الذين اعتقد أن معظمهم قد انهزم، يمكن أن يظهروا مرة أخرى ويصبحوا أكثر عنفاً.

يضاف إلى ذلك، إن رئاسة دونالد ترامب، مع شعار “أمريكا أولاً”، ونهجها العدائي تجاه الشركاء الأوروبيين، يعززان الاتجاه نحو الابتعاد عن الشراكة عبر الأطلسي، وفكرة ترامب لإيجاد طريقة مواتية مع موسكو على حساب الأوروبيين تضخم الدافع للانخراط مع روسيا في نهاية المطاف.