“جرمينال”.. سجالات الأدب و العمال
“جرمينال” رواية النضال من أجل مستقبل الطبقة العاملة، بل أكثر من هذا: إنها الرواية التي، إذ تصف قمع السلطات والشركات الاحتكارية لتلك الطبقة، لا يفوتها في الوقت نفسه أن تقول إن ثمة وراء القمع والهزيمة التي “تتوج” نضال العمال، مشكلات وانقسامات وضروب جهل وتردّد وتطرف تبرز داخل صفوف العمال أنفسهم، وكأن إميل زولا، شاء لروايته الكبيرة هذه أن تكون سجالاً بين العديد من الأطروحات السياسية، ولاسيما بين طروحات ماركس والأممية العمالية، وبين طروحات باكونين ونزعته الفوضوية التي تصبح في الرواية نزعة عدمية تماماً، من خلال شخصية المناضل الروسي الأصل سوفارين الذي يعتبر نفسه من أتباع باكونين إلى درجة أنه يكاد يخوض، خلال النضال العمالي، معركة خاصة به، ربما لم يكن واقعها سياسياً وعمالياً، بقدر ما هو شخصي، إذ أن سوفارين يهجس على الدوام بصورة زوجته التي قُتلت على أيدي رجال السلطة خلال قمع هؤلاء العمال.
من هنا إذا كان سوفارين يخوضُ نضالاً عمالياً طبقياً، فإنه في الوقت نفسه يخوض معركة ثأر خاصة. بالطبع سوفارين ليس هو بطل الرواية، بطلها الأول هو العامل الشاب إتيان لانتييه، هذا إن لم نقل إن البطولة هنا جماعية، معقودة للقوتين المتجابهتين: العمال ورجال السلطة، ذلك أن إتيان هو في الأصل عاطل من العمل يعيش في باريس ويمضي وقته بحثاً عن عمل، وهو حين يجد أن الدروب كلها سُدّت في وجهه يتوجّه إلى مناطق الشمال الفرنسي، بلاد المناجم المسمّاة “أرض الكورون” والملقّبة أيضاً بأرض الوجوه السود، انطلاقاً من لون غبار الفحم الذي يغطي وجوه الناس والعمال هناك طوال الوقت. عندما يصل إتيان إلى مناطق الشمال ينضمّ إلى عمال المناجم، ثم سرعان ما يجد نفسه في خضم نضالاتهم، برفقة واحد من زعماء العمال وهو توسان ماهو. وهنا في بلاد “الكورون” إذا كان العمل متوافراً، على عكس ما هو الأمر عليه في باريس، حيث البطالة مستشرية، فإنه عمل يائس بالكاد يقي أصحابه من البؤس والجوع، بل إن شركات المناجم الاحتكارية التي تتواطأ معها السلطة حيناً وتنافسها في الاحتكار وفي قمع العمال حيناً آخر، تنتهز كل فرصة ومناسبة حتى تمعن في إذلال العمال وخفض أجورهم أكثر وأكثر. وهكذا، إزاء هذا الوضع الذي يستحيل على الإنسان أن يصبر عليه إلى الأبد، يندلع الإضراب العام، لكنه ليس إضراباً ذا اتجاه وقيادة واحدة، فإذا كان إتيان لانتييه يتزعم جانباً من الإضراب باسم أفكار ثورية ماركسية ويهتمّ بأن يضمّ جمهرة العمال إلى الأممية العمالية التي كانت نشأت لتوها في لندن، فإن سوفارين الروسي الأصل، يريد أن يوجه التحرك صوب المطالب، أو ربما الاستيلاء على السلطة، وفي مقابل هاتين النزعتين هناك أيضاً العمال المتعاونون مع السلطة، والمندّسون والاستفزازيون، ومن بين هؤلاء العامل شافاك الذي كان أوقع في حبائل غرامه الحسناء كاترين ماهو شقيقة توسان والتي كان إتيان قد شعر منذ وصوله إلى المنطقة وارتباطه بتوسان باندفاع نحوها. وهكذا يترابط في رواية إميل زولا هذه الخاص والعام في بوتقة واحدة، ويمهّد الكاتب المسرح للأحداث الخطيرة والمميتة التالية، وهي أحداث تتمحور حول إضراب عمال المناجم الذي يقود جانبه الأساسي إتيان لانتييه مجابهاً الشرطة وبقية المتعاونين مع السلطات والشركات الاحتكارية، والإضراب سرعان ما يتحوّل بناء على تكتيك ذكيّ تتبعه السلطة متحالفة مع الشركات إلى لعبة عضّ أصابع، فالعمال يضربون والشركة تمتنع عن دفع رواتبهم، وهكذا بقدر ما تمضي الأيام، يتدهور وضع العمال ويبدأ المتمردون بالتراجع، ويبدأ العمال تدريجياً بالعودة عن الإضراب بمن فيهم إتيان الذي لا يعود إلا اتباعاً لفاتنته كاترين التي ازدادت حدة مطاردة شافال لها. وهنالك في دهاليز المناجم حيث الموت والبؤس، يحّرك الفوضوي سوفارين بدوره تكتيكه “الثوري”، فتكون النتيجة أن تغرق الدهاليز بالمياه، بفعل العمل التخريبي، وهكذا يقضي هذا التكتيك على أعداد إضافية من العمال بعدما كانت المجابهة الدامية مع رجال الشرطة قد قضت على أعداد منهم بين قتيل وجريح، وقد أضحى إتيان جراء ذلك محاصراً داخل الدهاليز، محاطاً بجثث القتلى والجرحى، فإنه يجد عزاءه الوحيد أن كاترين، إذ يتمكن هو من قتل شافاك، “خائن الطبقة العاملة”، تدرك أخيراً أنها تحبه هو، ولكن “السعادة” لا تدوم طويلاً، إذ أن كاترين تكون في تلك اللحظة على شفا الموت، وتموت فعلاً، أما إتيان فإنه ما أن يتمكّن من مبارحة الدهاليز، حتى يتخلى عن كل شيء عائداً إلى باريس، وهناك تنتهي الرواية سوداوية بالنسبة لمصير العمال، ولكن متفائلة بالنسبة إلى التربة الخصبة التي سقتها “دماء الشهداء”.
إبراهيم أحمد