في مخــــــاطر المــــال الانتخــــــابي
بسام هاشم
تعبر سورية مخاضات عدة: مخاض الحرب، ومخاض الإصلاح، ومخاض بناء سورية ما بعد الانتصار، وبما يتجاوز مجرد إعادة إعمار ما دمّرته الحرب العدوانية لرفع بنيان سورية الأنموذج والأمثولة القومية.
وكما شكّل الاستئناس الحزبي لاختيار مرشحي الحزب لانتخابات مجلس الشعب فرصة لاختبار ديموقراطية الحزب الداخلية ومدى جاهزية القواعد الحزبية للممارسة الجريئة والشفافة، فإن انتخابات مجلس الشعب، للدور التشريعي القادم، تشكّل فرصة تالية لاختبار قدرة السوريين – جميعاً هذه المرة – على اختيار من هم الأولى بثقتهم وتمثيلهم تحت قبة المجلس. فالعملية الديموقراطية لا تنهض على ركيزة مفردة، وهي ليست تجربة لمرة واحدة، بل هي حاصل سلسلة طويلة ومترابطة من الخيارات والمراحل الفرعية والمتعاقبة، وهي إن كانت تفترض فوز مرشحين جديرين بالثقة والأهلية فإنها تفترض في الوقت ذاته وجود ناخبين مدركين لمسؤولياتهم حيال أنفسهم ووطنهم، خاصة في مثل هذه المرحلة التاريخية التي يئن فيها السوريون تحت ثقل تحديات صعبة وقاسية حقاً، لكنها مبشرة وواعدة بولادة جديدة.
لقد شكّل الاستئناس بداية متواضعة وصغيرة، ولكنها كاشفة وعلى غاية من الأهمية؛ فقد طرح للنقاش الحر والعلني، ولأول مرة، مفهوم المال الانتخابي داخل البعث، على اختلاف المستويات التنظيمية، ونحن معنيون، هذه الأيام – كبعثيين أيضاً – أن تكون هذه المسألة محور نقاشات أوسع وأعمق، وأعلى نبرة، في استحقاق شعبي ودستوري يؤكد على دور البعث في الحياة العامة، ويمتحن رياديته في الحياة السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال مد السجال خارج الحدود التنظيمية، وإعطاء “عصا التتابع” للمواطنين السوريين جميعاً في الانتخابات التشريعية الراهنة، لكي نقطع معاً مسار الألف الميل الذي يقودنا إلى ديموقراطيتنا المنشودة. وهنا، فإن على البعثيين الذين يعرفون بدقة ما يتطلبه واجبهم الوطني في التصدي لمظاهر الفساد داخل مؤسسات الدولة ألا يتساهلوا أبداً في مواجهة الفساد الانتخابي؛ فكما عملوا على أن يكون مرشحوهم إلى الدور التشريعي الثالث ممن يحظون بدعم الرأي العام، يتعيّن عليهم العمل لكي يكون المرشحون المستقلون أيضاً مثالاً للنزاهة والبعد عن الشبهة وممارسة الضغوط، وذلك – على أقل تقدير – في إطار التزامهم ببيانهم الانتخابي!!
لا ينبغي أن تكون هناك أية خطوة إلى الوراء، كما من المرفوض إبداء أية علامة على الإحجام أو التردد، فقد تم إطلاق شارة البدء، وعلينا أن نثبت أننا مواطنون حقيقيون مدركون لمعنى مواطنتهم، وأننا لسنا رعاعاً، ولا حمقى، يسرقُ “بعضُهم” لقمة عيشنا وعيش أولادنا، ثم نمنح هذا “البعض” أصواتنا صاغرين لأننا نشترى بثلاثين من الفضة، فمن العار أن نصوّت لفاسدين افتضحت ملفاتهم، كما من الخيانة أن نلقي ثوب الحصانة، مرة أولى وثانية وثالثة، على فاسدين أزكمت الأنوف رائحة تورطهم وارتكاباتهم؛ وسوف يكون ذلك – إن حصل – دليلاً على فساد رخيص سياسي وأخلاقي ليس جديراً بمواطني سورية الصامدة ولا بجماهير شعبنا الصابر والمقاوم.. إن الديمقراطية مسؤولية، وهي مسؤولية الناخبين قبل كل شيء.
لا ينبغي لاستحقاق الـ 19 من تموز أن يكون عادياً، أو أن يكون كسابقاته. وإذا كانت أسماء ووجوه بحد ذاتها تعود لتتصدّر اليوم، دون خجل، لافتات الدعاية والقوائم والملتقيات والمهرجانات الانتخابية، فلأن هناك بين المرشحين من يجيدون ارتداء الأقنعة والتنكّر، وما على ناخبينا – والحال هذه – إلا أن يبرهنوا على جدارتهم الروحية والسياسية والأخلاقية – وعدم “فسادهم” بدورهم!؟ – على الأقل من خلال اختيار مرشحين لم يتلوّث ماضيهم بالشبهات ولا الملاحقات ولا المطالبات القانونية؛ وإننا، إن كنا “نصدح” دائماً بأهمية وضرورة مكافحة الفساد، فإن سد الطريق على أولئك الذين استمرأوا اللعبة المزدوجة، أي “خدمة” الوطن ونهبه وسرقته في آن واحد، وإضعاف مؤسسات الدولة، ومن ثم التنطّح لحقنها بدمائهم الفاسدة، هو الخطوة العملية الأولى، وأقل الواجب، في انتخابات سوف نرثي نزاهتها، أو – على العكس – سنتغنى بها، إثر صدور النتائج!!
إن الفساد لا يتجزأ، والضرب على أيدي الفاسدين إنما يبدأ من صناديق الاقتراع، فالمال الانتخابي يهدد بالتحوّل إلى قوة سياسية ودستورية تضمن الإفلات من المساءلة والعقاب، وحذار أن ينقلب النشاط الانتخابي إلى نوع من شراء الذمم وابتياع الضمائر.
لن تخوض سورية خلال الأسبوع القادم أول انتخابات تشريعية في تاريخها، ولن تكون بالتأكيد آخر انتخابات، ولكن انتخابات تموز 2020 ينبغي أن تكون فاصلة ومفصلية، فهي تكتسب أهميتها الاستثنائية من حقيقة أنها يجب أن تعكس عمق وأصالة استيعابنا لدروس الألم والمعاناة والتضحية، ونحن على مشارف الفصل الأخير من الحرب، ومن حقيقة أنها يجب أن تكون أيضاً بداية ثورة شاملة على الفساد الذي بات “يرتبط” مع الإرهاب في عملية تغذية متبادلة.