إضاءة على التجربة القومية
علي اليوسف
كثيرة هي التحديات الجارية التي تذكر بالتيارات القومية التي مرت على المنطقة العربية لما لها من أهمية كبيرة في هذه المرحلة التي تشهد عصر انحطاط الهويات القطرية. وإذا ما كان الحديث عن الوعي الجمعي العربي، فالتذكر لا ينحصر في تاريخ ظهور تلك التيارات وانحسارها، بل هو في الزمان والمكان فلسطينياً وعربياً وعالمياً.
لا ينحصر الدرس التاريخي للتيارات القومية في تعداد ما تم إنجازه وما كان الطموح للوصول إليه، بل يتجاوز ذلك طبقاً لمتطلبات المرحلة وتناسب القوى ودرجة الاصطفاف الذاتي مقابل الثورة المضادة. على هذا بنت الحركات القومية مشروعها من المستوى العربي فالعالمي، ومن هنا حقق التيار القومي العربي مشروعه في تحرير أكثر من قطر عربي، وجسد الوحدة بين مصر وسورية.
لم يكن بوسع الثورة المضادة تأجيل هدفها كي لا تصل الحركة القومية العربية إلى القوة اللازمة لتحقيق غايتها، وهذا ما نراه تماماً اليوم تجاه محور المقاومة فهي إن اعتدت سوف تخسر الكثير، وإن تلكأت فإن هذا المحور يزداد قوة فتنتقل من القلق إلى الندم.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فالثورة المضادة هي نفسها التي تجثم على صدر الوطن العربي ورأس حربتها المزدوج هو ذاته الكيان الصهيوني، وأنظمة وقوى الدين السياسي. لم يتغير رأس حربة الثورة المضادة، وبدوره لم يتغير مركز الثورة المضادة. نعم، لم يتغير الاصطفاف، ولكن ما تغير هو كبير وخطير، ففي حين كان الرد والصد عربياً على يد المدافعين عن الفكر القومي، ها نحن نواجه هجوم الثورة المضادة بقيادة مملكة آل سعود وكيانات النفط. بمعنى أن الفريق العربي في الثورة المضادة انتقل إلى الهجوم التصفوي علانية، وكان بالطبع قد جنَّد قوى الإرهاب /الدين السياسي/ لتصفية الجمهوريات العربية، ومعها التيارات القومية وحركات المقاومة. وإذا كان ملوك السعودية قد طلبوا من الإدارات الأمريكية السابقة سراً العدوان على الدول العربية لتصفية التيارات القومية، فإن حكام السعودية الحاليين وحلفاءهم يقفون في الصف الأول ضد العروبة، إنهم الجيش الأمريكي الثالث الذي يحارب نيابة عن مركز الثورة المضادة ليقتل العربي نفسه، ويمارس التطبيع لصالح الكيان الصهيوني، حيث تهرول قيادات ومثقفون إلى الكيان بالمجان.
لقد كان التيار القومي العروبي أكثر من عرف الفريق العربي في الثورة المضادة، وحتى فكرة “التضامن العربي” إثر هزيمة 1967 كانت بمثابة هدنة لهذا الفريق كي يجهز نفسه للإجهاز على العروبة، وهذا ما نراه اليوم.
لقد وقعت التيارات القومية ومعظم القوى القومية واليسارية العربية في فخ الثورة المضادة فهي إما أيدت تلك الثورة المضادة والتحقت بالأنظمة القطرية، أو حتى غابت عن الساحة فكرياً وثقافياً.
في السابق حاولت التيارات القومية التأسيس لاشتراكية طبقاً للواقع العربي، سواء من حيث مستوى التطور أو من حيث واقع التجزئة، لكن تلك التيارات لم تذهب في الأمر إلى حد تصفية البرجوازية العربية التي مالت إلى الكمون داخل المجتمع بانتظار لحظة الردة، وهو ما حصل.
هذه الوقائع هي بمثابة إضاءة على ما يجب أن يكون عليه الحال اليوم من أجل الغد. فتجديد المشروع العروبي يشترط القطيعة مع المعسكر الرأسمالي، بل مواجهته، حيث أثبتت الوقائع أن كلفة مواجهته أقل بكثير من محاباته. أين تصل القطيعة بمعنى فك الارتباط؟ هذا أمر منوط بما تحتمله الساحة وقدرة القوى، لأن المهم هو ضبط البوصلة وليس تفاصيل تحريك عقاربها.
إن التجربة القومية تعلمنا بأن الرأسمالية ليست الحل للطبقات الشعبية العربية التي لها مصلحة مادية في الاشتراكية كما هي مصلحتها الثقافية والعاطفية في الوحدة.