حبكة الرواية لا تكون إلا بالشخصية …

الشخصيات ضرورية لتطور الرواية، من دونها لا وجود لفعل حقيقي، ولا يمكن لأي تغيّر في الموقف أن يحصل، وهي تبقى حتى وإن كانت تبدو مسلوبة الإرادة وسلبية أو ضعيفة، الإرادة مصدر الفعل بالحد الأدنى الذي يطبع الرواية بإيقاعه على الرغم من أنه بطيء ويتميز بالتكرار.

“الشخصية في الرواية” الكتاب الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب لمؤلفته لور هيلم، وترجمة د. غسان السيد، يأتي كدراسة تطبيقية على الشخصية الروائية في عدد من الأعمال، تعالج الشخصية من جوانب مختلفة، وتدرس علاقتها بالعناصر الروائية الأخرى، بوصفها المحرك الأساسي للحدث الروائي، وتعرض وجهات النظر المتعددة التي تباينت إلى درجة رفض بعضهم مفهوم الشخصية برمتها.

كتب د. غسان مقدمة جاء فيها: تأتي أهمية الكتاب من كونه دراسة تطبيقية على الشخصية الروائية لباحثة في مركز البحوث، حاصلة على دكتوراه في الأدب الفرنسي، قلما نرى دراسات تطبيقية تفيد أكبر شريحة من طلاب الدراسات العليا مثلما هي الحال مع هذا الكتاب، وتستفيد الباحثة من المناهج النقدية الحديثة في دراستها للشخصية الروائية، كما هو واضح في عنوانات الفصول، وقد تناولت الشخصية من جوانبها المختلفة، كونها هي المحرك الأساسي للكتابة الروائية، كما يظهر في عنوان الفصل الأول الذي تستخدم فيه الباحثة نموذج غريماس العاملي للتعامل مع الجوانب المختلفة للشخصية كونها وظيفة فاعلة في النص الروائي، وتستخدم هنا البرنامج السردي الذي يقوم على أربعة عناصر ضرورية لإكمال أي فعل تقوم به الشخصية، توقفت عندها الباحثة مطولاً هي: التحريك، والجدارة أو الكفاءة، والإنجاز، ومن ثم الجزاء أو المكافأة، كما تتطرق إلى بواعث الفعل التي هي: الإرادة، والقدرة، والمعرفة.

تتوقف الباحثة في الفصول التالية عند علاقة الشخصية بالزمن واللغة والشخصيات الأخرى، وتختتم الكتاب بفصل مهم قلما نتطرق إلى موضوعه في دراستنا، والعنوان وحده يبيّن مضمون الفصل وهو: أزمة الشخصية الروائية، إذ يبحث هذا الفصل في التغيرات التي أصابت الشخصية الروائية، بدءاً من الشخصية التقليدية التي تتموضع في قلب العمل الروائي، مع التركيز على حياتها الخارجية والداخلية، مروراً بتفكيك هذه الشخصية، والتقليل من وجودها وأهميتها لدى بعض الروائيين من أمثال آلان روب غرييه، وكافكا، وكامو، وانتهاء بعودة الاهتمام بهذه الشخصية ولكن بطريقة مختلفة.

ويضيف د. غسان: إنني أعتقد أن ترجمة كتب النقد الأدبي مهمة صعبة بسبب طبيعة المادة العلمية الموجودة في هذه الكتب، بالإضافة إلى الأساليب المعقّدة التي يلجأ إليها بعض الكتّاب، وهذه هي طبيعة المناهج النقدية الحديثة التي تطعِّم النقد بالفلسفة.

ترى الكاتبة في كتابها “الشخصية في الرواية” أنه من المستحيل الحديث عن الرواية في أي عصر من العصور دون ذكر الشخصيات التي تحتل المركز منها، فالشخصية الروائية تمثّل عنصراً لا يستغنى عنه في التخييل، وتشكّل نقطة ارتكاز أساسية بالنسبة إلى القارئ، ومكان توظيف انفعالي وأيديولوجي أساسي، الحبكة نفسها لا توجد إلا عبر الشخصية ومن أجلها، وهي محرك العمل، والضامنة في الوقت نفسه لتماسكه.

في الواقع لقد جرى التشكيك بهذه المكانة المركزية للشخصية، لاسيما من الروائيين الجدد الذين جعلوا منها أهدافهم الرئيسية خلال سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، وتنتمي رواية الشخصيات من وجهة نظرهم إلى الماضي في عصر مطبوع بصعود الفرد المفرط في ثقته بوسائله ومستقبله، ومن الضروري التخلّص بسرعة من هذه الدعامة للرواية التقليدية التي ينظر إليها من الآن فصاعداً بوصفها شيئاً مصطنعاً وكاذباً، وعلى الرغم من الهجمات العنيفة التي كانت الشخصية هدفاً لها، إلا أنها استمرت في فرض نفسها اليوم، ومن الضروري ملاحظة أنها تبدو دائماً لا يستغنى عنها في كتابة أية رواية، ويبدو أن الشخصية لم تقوّضها، بل بالعكس أعادت الحيوية إليها.

في الحقيقة، شخصية الرواية مخلوق في منتهى التناقض، إنها غائبة عن حياتنا الواقعية، ومُعامِل وجودها أدنى بكثير من مُعامِل وجود شخصية حقيقية يمكن أن نخالطها في حياتنا، لكنها تملك في الوقت نفسه كثافة وجودية أعلى من كثافة وجود أي كائن يمكن أن نصادفه.

يدخل قارئ الرواية في علاقة حميمية مع الشخصية الروائية لا يمكن أن يعيشها مع شخص من لحم ودم: يمكن أن يرافقها في لحظات عزلتها، والتعرف على أفكارها الأكثر سرية، ومشاعرها الأكثر عرضية، ورغباتها التي لا يمكن المجاهرة بها كثيراً، ويتتبعها في مجموع أفعالها، ويطّلع على العلاقات التي تقيمها مع الشخصيات الأخرى، وغالباً بالطريقة التي تدركها بها هذه الشخصيات، وفي المجمل يمكن أن ينتاب القارئ الشعور بأنه يعرفها بصورة كاملة، إنه مدخل لطيف إلى الداخل وتحت الجلد، تتعمق هذه الحميمية في بعض الحالات إلى درجة أن الشخصية تصبح نوعاً من المرافق أو النجيّ البعيد يتوجه نحوه القارئ بإرادته، هذا إذا لم يتماه معه بصورة كاملة.

جُمان بركات