قابيل الثاني!؟
د. نهلة عيسى
تعودت منذ طفولتي – دون أن أعرف كيف تعودت – أن أتقبل سلفاً كل نتائج أفعالي: الخسارة والربح، سوء الفهم، وحسن الظن، أو العكس، الشتيمة والمديح، وهذا التعود هو ما جعلني ما أنا عليه الآن، سريعة الغضب، قريبة الرضا، وقانعة في ضوء كل ما حصل – وما أظنه سيحصل – أن الفرح لن يولد في سرير جيلنا، وأن العدالة لن تعلن إلا فوق توابيتنا، باعتبار أن كل ما حصل هو نتاج أفعالنا.
أعرف أنكم ستردون: لسنا سبباً، نحن نتيجة!؟ سأجيب: النتائج اللامبالية إلا بخلاصها الفردي، هي من سقت وروت وحمت شجرة الأسباب، وصيرتها شجرة يقين، وشرعنتها وبررتها، وجعلتها حاجة وضرورة، مثلما حولت الإعلانات (كوكا كولا، وصابون فا، ودجاج كنتاكي، ومسحوق برسيل، و.. و،. إلخ) إلى حاجة وضرورة دونهما الموت، لذلك أرجوكم.. لا ترفعوا أبداً أصواتكم كالمرتاعين الواجفين، فتشوا في أثوابكم سوف تعانقون قابيل الثاني! لا تبحثوا عن دلائل، كل عيشنا دلائل، كل نسمة، كل شهقة، كل رجل يحتضر، وطفل ذاهب إلى المدرسة، الموظف المرتشي، الأم المعذبة، الأب المستلب، المراهق المتمرد، الجندي يجفف دموع أمه عبر الهاتف، صبي البقال، وكل بائس ووحيد حتى قاع عظامه منا، وكل صرخة، وكل همسة، وكل ما يولد، وكل من يموت على أرضنا، هو دليل على أننا نعيش مسترخين فوق تلة زلازل، وأن كل الأيدي التي كانت تصفق لنا، هي ذات الأيدي صفقت لقتلنا!!
لا تبحثوا عن أدلة، فكل ما نحن فيه.. أدلة، ولذلك أتكلم الآن، لأني أعرف أن الصمت سيصبح نعشاً مادام حاضرنا مربوطاً بماضينا، بكل تناقضاته التي لم تحسم، ويبدو أنها لن تحسم، لأنه مشجبنا الأثير الذي لطالما علقنا عليه خطايانا، وبررنا به توانينا، وفي أحيان أخرى حولناه إلى ابنة الخالة التي نتباهى بشعرها، لصرف النظر عن صلعنا، وعن أننا لطالما مكثنا في هوامش التاريخ، حيث عجزنا عن المشاركة في كتابة فصوله، إلا ما ندر، وللأسف أن ما ندر، هو ما يعيش عليه حتى الآن.. نحن وكل العرب!
وحكايات التاريخ تقول: إن مأساتنا تكمن في أننا نفكر كما أراد لنا المنتصرون علينا.. أن نفكر، ونتصرف كما أراد لنا الأقدمون أن نتصرف، ولذلك نحن في حالة تأرجح مخيفة ما بين حضن ماركس، وحضن ابن تيمية، وليس هناك بلاطة وسط نضع فيها قدما نتوازن عليها، يمكن أن تكون بلاطة انتماء أو وجود، لأن من يوجد في مكانين، لا يوجد!؟
أيضاً حكايات التاريخ تقول: إن حالة التأرجح لطالما شكلت مأزقاً وفصاماً ثقافياً، حيث معظم مرجعياتنا بتفاسيرها، أحادية، فوقية، تتحدث حتى شعراً، عن المطلق، والمتسامي، والمتعالي، والأصدق، والذي لا يشبه أحداً ولا يشبهه أحد، بينما الواقع تلاقحي، ونسبي، وحمال أوجه، ومزيج من كل شيء، بلا تفضيل ولا هيمنة، ولا صكوك غفران توزع على التابعين!!
أتكلم الآن، لأن إعادة رسم الخرائط من قلب الخراب، ومن رحم الحد الأدنى للحياة، تستلزم قراءة التاريخ، والاعتراف بأننا بشر نخطئ ونصيب، ولسنا أشباه آلهة، بل فينا حمزة بن عبد المطلب، كما فينا من نزل عن جبل أحد ليقتسم الغنائم، فهُزم، ولذلك قراءة الماضي بقصد الفهم، هي أساس رؤية الأبنية المقبلة من وسط الدمار، وتلمس البذرة الحية الكامنة في جذور الأشجار المحروقة، وحبة القمح الصامدة في تراب الهشيم، بلا ادعاء أو تنطع، لأن المستحيل، هو مالم يجربه أحد!.
أتكلم الآن، قبل أن نجبر على الصمت، بحجة أنه قد آن الأوان للعبور للغد، رغم أن الغد مازال أمس، ومازال قصصاً وحواديت، تنتمي في حقيقتها إلى تاريخ روايات الجيب، وحكايات الجدات قبل النوم، عن بلادنا.. الأميرة النائمة، وعن قبلة الحياة والأقزام السبعة، والجنة الملغمة بالحوريات، والأمير المنقذ، وفي كل مرة أمير جديد، خاصة وأن نوم الأميرة متعمداً، وغاية ومقصداً لمن لطالما باعونا التاريخ بضاعة فاسدة، ومازالوا يظنون أن الصمت يمكن أن يرأب صدعاً!