تشويه الرأي العام
سمر سامي السمارة
أظهر استطلاع رأي نشرته وكالة رويترز/ إبسوس مؤخراً أن لدى الغالبية العظمى من الأمريكيين الاعتقاد بأن روسيا دفعت سراً أموالاً لمقاتلين في حركة طالبان لدفعهم إلى قتل جنود أمريكيين في أفغانستان العام الماضي أثناء المفاوضات لإنهاء الحرب، وأن أكثر من نصف المستطلعة آراؤهم يريدون الرد بعقوبات اقتصادية جديدة ضد موسكو، وبحسب الاستطلاع يعتقد 60٪ من الأمريكيين أن التقارير التي وردت حول المكافآت الروسية لقتل الجنود الأمريكيين قابلة للتصديق، بينما يرى 21٪ أنها تقارير تفتقر إلى المصداقية، ومن تبقى قالوا: إنهم غير متأكدين.
يرى محللون أن وجهة النظر التي أبداها الـ 21 بالمائة من المستطلعة أراؤهم، هي الأكثر موضوعية، وأن هذه الرواية تفتقد إلى المصداقية، حتى أنها بعيدة كل البعد عن الحقيقة. وفي هذا الشأن يبين المؤرخ والخبير بشؤون الأمن القومي الأمريكي، والصحفي المخضرم “غاريث بورتر” عبر موقع “ذا غري زون” أن رواية “بونتي غيت” حول التمويل الروسي لمقاتلي طالبان لا أساس لها من الصحة إلى حد أن وكالات الاستخبارات الأمريكية رفضتها، لذلك لا يقدم التقرير الذي نشرته ” واشنطن بوست” أي وقائع ثابتة أو معلومات مؤكدة، وكل ما يراد تقديمه هو أجندات إمبريالية موجودة من قبل، مثل البقاء في أفغانستان، والقضاء على آخر الصفقات النووية المتبقية مع موسكو، وخلق رأي عام يدعم فرض عقوبات جديدة على روسيا. ومع ذلك صدق غالبية الأمريكيين التقرير على الرغم من عدم وجود أدلة على مصداقيته، حتى أصبح السرد حول المكافآت الروسية التي عُرضت على مقاتلي طالبان في أفغانستان لقتل القوات الأمريكية بمثابة حقيقة ثابتة داخل العديد من الدوائر الرئيسية، وهنا لابد من الإشارة إلى عدم موضوعية غالبية الأمريكيين وبعدهم عن التفكير العقلاني، ولو أنهم كانوا يتسمون بالمهارة في التفكير النقدي كما يميل البعض إلى الاعتقاد، لفقدت وسائل الإعلام التي تعتمد الحرب النفسية الباردة ثقة الجمهور بهذه المؤسسات، لكن التحيزات المعرفية تشوّه مقدرتهم على معالجة المعلومات وفهم الأحداث بشكل موضوعي، كما أن ترديد أمر ما على مسامعهم مراراً وتكراراً يجعلهم يؤمنون بمصداقيته، ما يجعلهم عرضة لبروباغندا وسائل الإعلام، وعناوين الأخبار اليومية أن تشكل تصورهم لما يحدث في العالم بغض النظر عما إذا كانت هذه العناوين مدعومة بالحقائق الفعلية أم لا. يُظهر هذا الاستطلاع قدرة وسائل الإعلام الأمريكية على التلاعب بالرأي العام لصالح أجندات المؤسسة التي تستخدم حملات دعائية مفبركة. وغالباً ما نرى تشويهاً للتصور العام لما يدور نتيجة الأكاذيب التي تدخلها في أذهانهم وسائل الإعلام الإخبارية، وعليه يستطيع كل من يتابع وسائل الإعلام الغربية أن يلاحظ انتشار واستمرارية هذا النوع من التلاعب، ففي كل يوم تضع وسائل الإعلام البلوتوقراطية أفكاراً تدعم وتعزز برامجها في أذهان الناس، وهذه ليست نظرية مؤامرة وهمية، بل إنها حقيقة موثقة يؤكدها العديد من الصحفيين الرئيسين، وطالما أن هذا هو الحال في المجتمع الأمريكي، فمن المؤكد أنه لا مكان للديمقراطية، وطالما استمر هذا التحالف الفضفاض بين الأثرياء والعاملين بالإدارة، فهم قادرون على التلاعب بطريقة تفكير غالبية الأمريكيين، لذا لا يمكننا القول: إن الأمريكيين يمكنهم أن يمسكوا بزمام أمورهم، وحيث إن الغالبية تتماشى وتنسجم مع الأثرياء الذين يمكّنهم نفوذهم الإعلامي الهائل من السيطرة على السرد العام، فإن التصويت يعكس بالضرورة إرادة هؤلاء الأثرياء، وليس إرادة الأمريكيين، حتى لو تم تغيير كل ما هو غير صحيح في الإدارة الحالية، مع احتفاظ الطبقة البلوتوقراطية بقدرتها على التلاعب في طريقة تفكير الناس وتصويتهم، فمن المؤكد أن شيئاً حقيقياً لن يتغير. وحتى مع ضمان نزاهة الانتخابات في الولايات المتحدة، وإنهاء التلاعب في الدوائر الانتخابية، سيواصل الأمريكيون التصويت بالطريقة التي يتم التلاعب بهم، طالما لا تزال الطبقة البلوتوقراطية تستخدم ثروتها للتلاعب بالرأي العام دعماً لمصالحها، وبطبيعة الحال يعد هذا التلاعب مكوناً رئيسياً في أي علاقة استغلالية طويلة المدى، لأن الأشخاص لا يميلون إلى البقاء في مواقف يتم استغلالهم فيها ما لم يتم التلاعب بهم للقيام بذلك. هذا صحيح، سواء كنا نتحدث عن شراكات رومانسية، أو حكومات، أو هياكل سلطة عالمية، ومثل أي علاقة استغلالية أخرى، حان الوقت للتغيير قبل فوات الأوان، وذلك من خلال زيادة ونشر الوعي بحقيقة ما يحدث، سواء في الداخل أو في الخارج من خلال مشاركة معلومات صادقة مع الآخرين.