الحرب بين الصين وأمريكا ليست باردة !
إعداد: هناء شروف
أصبحت “الحرب الباردة الجديدة” تقريباً وصفاً افتراضياً للتنافس الحالي بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، حيث توجد بالفعل بعض أوجه التشابه الهيكلي مع مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما كان الاتحاد السوفييتي يحارب الولايات المتحدة. أما الآن فالعالم يعيش نوعاً من نظام ثنائي القطب من حيث القوة الاقتصادية والقوة العسكرية والنفوذ العالمي والقدرة على تلويث الكوكب، وهناك تنافس بين الصين والولايات المتحدة، ولكن لا يمكن أن نسميها حرباً باردة جديدة، بل من الخطر تسميتها كذلك، فنحن نرتكب أخطاء مهمّة إذا نظرنا إلى الماضي لتقييم التوترات الحالية بين البلدين.
هناك ثلاثة أسباب بسيطة تجعل التنافس بين الصين والولايات المتحدة ليس حرباً باردة جديدة:
أولاً: كانت الحرب الباردة صداماً أيديولوجياً بين رؤيتين للتاريخ ونموذجين للحداثة. فالولايات المتحدة تمثّل الحاضر الليبرالي والرأسمالي من الاستهلاك، والأجور المرتفعة، وزيادة الإنتاجية والحرية غير المحدودة. أما الاتحاد السوفييتي السابق فكان يمثّل الواقع الاشتراكي للتعليم المجاني والرعاية الصحية، والمساواة الكاملة في الإمكانات والوسائل، وسيطرة العمال على العملية الإنتاجية. هذه القطبية الإيديولوجية غذّت منافسة الحرب الباردة، وحالياً لا شيء في العلاقة بين الصين والولايات المتحدة يشبه هذا التناقض الإيديولوجي الكلي.
ثانياً: في الحرب الباردة، تفاعلت الجغرافيا السياسية مع الأيديولوجيا، وتنافست القوتان على مستوى عالمي في محاولة لتطبيق نموذجهما للحداثة، لكن مخاوفهما تركزت بشكل أساسي على أوروبا، وألمانيا على وجه الخصوص، لقد كان نزاعاً على أوروبا. هناك قامت واشنطن وموسكو بتشكيل كتلتين سياسيتين وعسكريتين (الناتو وحلف وارسو) تعكسان بعضهما البعض بطريقة أو بأخرى في “القارة العجوز”، تمّ تأسيس وإرساء التوازن النووي للإرهاب الذي وصفه هنري كيسنجر بأنه “الاعتماد المتبادل من أجل البقاء”، وإضفاء الطابع المؤسسي عليه. اليوم لا شيء في المنافسة الحالية بين الصين والولايات المتحدة يشبه المركزية الأوروبية في الحرب الباردة.
ثالثاً: السبب الأخير هو العولمة وكيف أنها غيّرت العلاقات الدولية المعاصرة. كانت الحرب الباردة نظاماً قائماً على عدم الاعتراف بين القوتين العظميين، ورفض قبول شرعية النظام الاجتماعي للخصم والمزاعم الكونية، على الأقل في السنوات الأولى من فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد أنتجت العولمة شكلاً من أشكال الاعتماد المتبادل الذي ربط الجانبين في احتضان بشري لا مفرّ منه، وبدءاً من منتصف الستينيات فصاعداً، بدأ الجانبان بالتواصل مع بعضهما البعض كما لم يحدث من قبل، وقفز شركاء واشنطن الأوروبيون، وخاصة ألمانيا الغربية على متن السفينة، وقدموا الاعتمادات والتكنولوجيا للاتحاد السوفييتي وحلفائه. أما التجارة، والائتمان، والقروض والتبادل الثقافي والتعليمي فلا تقارن بالوضع الحالي بين الصين والولايات المتحدة.
لقد شهدنا خلال الخمسين سنة الماضية عملية تكامل عالمي تضع العلاقات الصينية الأمريكية في كثير من الأحيان في مركزها، وأصبح التفاعل بين البلدين منتجاً ومحركاً حاسماً للعولمة. هناك جزء من إنتاج الشركات الأمريكية في الصين والاستثمارات الأمريكية هناك، وبعد ذلك الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة وبقية العالم، القدرة الفريدة للسوق الأمريكية الشرهة على امتصاص السلع المنتجة في الصين، وكذلك رغبة بكين في تكديس الدولارات وأوراق الخزانة الأمريكية لدعم الاستهلاك الأمريكي والحفاظ على قيمة عملتها منخفضة بشكل مصطنع، ملايين الطلاب الصينيين في الكليات والجامعات الأمريكية، مثل هذه الترابطات تصف الآن العلاقات الأمريكية الصينية وتكشف عن مدى تحديد هذه الروابط.
إذا أطلقنا على التنافس والتوتر الحاليين بين الصين والولايات المتحدة “حرباً باردة جديدة”، فإننا نغفل عن التفرد التاريخي والخصوصية لعلاقتهما التي ربما تكون الدرس الوحيد الحقيقي الذي يجب أن تقدمه دراسة الماضي.