رواية تعيد قراءة الأزمة.. “قبور لا تموت” شواهد مغروسة في الذاكرة
تناول العديد من الروائيين السوريين وقائع الأزمة السورية وتأثيراتها على الإنسان والمكان، وفق محاكاة مختلفة، لكنَّ قلّة هم من كتبوا نصوصهم بتجرد واتزان وموضوعية بعيداً عن الأهواء السياسية والعقائدية والأيديولوجية، وفق رؤى تتجه إلى مختلف التيارات الاجتماعية، وهذا قد يكون له ما يسوّغه إذا فصلنا النص الأدبي الذي يعبّر عن وجهة نظر ذاتية، وبين النص التوثيقي التاريخي.
لكنَّ ما قدمه الروائي إبراهيم الخولي في نصه الروائي الثالث “القبور لا تموت” الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، هو مقاربة يمكننا القول عنها إنها أكثر اتزاناً وترفعاً عن الأهواء السابقة، رغم اتِّسامها بالمبالغة والانجراف، إلى حدّ ما، نحو تيار الواقعية السحرية التي لا تنقل الواقع كما هو، بل كما يطمح ويأمل كاتب النص أن يراه، انطلاقاً من رمزية القبور التي جعلها عنواناً لفصوله الثمانية عشر، وهي كناية عن حوادث وذكريات ستبقى شاهدة على تاريخ مرحلة مفصلية عاشها الشعب السوري، ويتمنى الكاتب أن نستشفّ منها الدروس والعبر للمستقبل.
في الرواية هناك صوت واحد لراوٍ متابع لكل مجريات الأحداث يلاحقها في أماكن متباعدة عديدة، لا يدع مجالاً لصوت آخر يعترض مساره، إلا ما ندر لمونولوجات خارجية بين شخوصه الكثيرة المتعاقبة تتخلّل السياق بلغة أقرب إلى التقريرية منها إلى السردية الدرامية السينمائية.
يبدأ الحدث بفصل “قبر في حلم” وهو حلم الأستاذ وسيم الشخصية المحورية، ويأتي بعد ليلة مخمورة في مدينة روتردام السويدية التي هاجر إليها، هذا الحلم أعاده إلى قريته الصغيرة الوادعة على ضفاف العاصي: “قبل أن يبدأ الملثمون يأتون على دراجاتهم النارية ويدخلون القرية من جهاتها الأربع، ويتلاقون على ميعاد قرب باب المدرسة مطلقين النار في الهواء”.
وسيم الذي مرّت عليه تلك الأحداث المتسارعة كالكابوس، لم يصح منه إلا بعد مقتل زوجته الصيدلانية ديمة بقذيفة طائشة ويخلّفها وراءه ضمن قبر صغير في حديقة المنزل ليلحق ركب الهاربين من شبح الموت القادم الذي لحقهم إلى خارج الحدود، حيث يلجأ وسيم إلى مخيمات النزوح في لبنان، ويتعرّض هناك لخطر القتل بسبب رفضه تدريس أطفال المخيم منهاجاً غير منهاج بلده: “التدريس وفق منهاج الدولة الخليجية التي تبرعت بالرواتب والكتب والمستلزمات الأخرى.. هل نعي أي جيل ستنتج هذه المناهج؟”.
هذا الرفض دفع ثمنه عندما وجد نفسه بين الموت والحياة في قاع أحد الوديان، لولا الحاج علي ورجاله الذين أنقذوه وساعدوه ليصل إلى الميناء، وهناك يركب البحر قاصداً مدينة أزمير التركية، ليتلقفه هناك الشيخ حمّة التونسي الذي يجند “الجهاديين” الإرهابيين من كل أصقاع الأرض للحرب في سورية، لكنَّه ينجح في التملّص منه بمساعدة محمد وهزاع الشابين السوريين اللذين يأخذان بيده لركوب قوارب الهجرة المبحرة نحو أوروبا، حيث تقوده إلى مدينة روتردام السويدية التي يلتقي فيها بالخوري خزعل العراقي الذي يؤمّن له المأوى والعمل، وهناك يحوّله الروائي إلى “دنجوان” كحال معظم الروائيين الذين لا يجدون في وجود العربي في الغرب سوى هذا الجانب رغم كثرة القضايا التي يمكن التركيز عليها في ظل المرحلة المتخمة بقضايا النزوح العربي هرباً من فوضى الحروب.
ظاهرة العربي الدنجوان تقود وسيم، دون مقدمات، إلى أحضان لورين السويدية التي تغرم به وتسبّب له غيرته المفاجئة عليها بعراك يضعه أمام خيار واحد هو الطرد خارج البلاد، فيختار العودة إلى وطنه قاصداً مدينة طرطوس التي لا يسميها سوى تلميحاً وصفياً كغيرها من الأماكن التي يحرص على عدم الانحياز إليها سوى بما تمثله من طيف ديمغرافي يخدم الفكرة العامة التي يرنو الوصول إليها، وهي أننا جميعاً مذنبون وضحايا في الوقت نفسه، فكما هناك مذنبون في حمص، هناك الأستاذ وسيم الضحية، وهناك أبو هزاع الرقاوي وزوجته اللذان فرا من داعش ولجأا إلى أصدقائهما في طرطوس، المهندس الزراعي الذي كان يعمل في حوض الفرات وزوجته مي اللذان ساعدهما أبو هزاع وأنقذ حياتهما عندما لجأا إليه هرباً من سكاكين داعش هم ضحية، وبالمقابل ابن عم مي عدنان الذي ركب الأزمة وحمل السلاح لإرهاب الناس وممارسة البلطجة و”التعفيش” هو مذنب.
في كل مكان يقدّم إبراهيم الخولي الشيء ونقيضه، لكي لا يلقي باللوم على طرف دون غيره.
في مدينة طرطوس حيث نشهد الفصول الأخيرة من الرواية، يقع وسيم بحب مي وفق منهجية الحب الصاعقة من أول نظرة، دون مقومات أو مبررات بنيوية منطقية مقنعة: “شعرت مي بأنها مع كل كلمة تبوح بها لهذا الرجل الذي بالكاد تعرفه، كأنما تفتت الصخور التي تدمي قلبها إلى حصى صغيرة”، وعندما تقرر الزواج منه يخطفه ابن عمها عدنان، ليقتل في الاشتباك الذي جرى بين عدنان والقوى الأمنية التي تلاحقه على خلفية جرائم عديدة، فتقرر مي دفنه في قريتها، في القبر الذي لم يدفن فيه زوجها الشهيد المهندس وسيم، بعد أن تنجح في تبديد اعتراض الرافضين في بلدتها، وتتحوّل جنازته إلى لقاء وطني يلمّ شمل الأسرة السورية من جديد.
رواية تحمل رمزية إنسانية جميلة يحاول إبراهيم الخولي القفز فوق الواقع والممكن، لصنع الأمل للأجيال القادمة.. حاول تغييب الزمن السردي لمصلحة الزمن النفسي، في اقتفاء واضح لأثر روايات تيار الوعي الحديثة، التي تكسر تعاقبية الزمن لإتاحة المجال أمام ما يُسمّى بـالمفارقة السردية للظهور تارة استرجاعاً إلى الماضي، وتارة أخرى استباقاً واستشرافاً لأحداث لاحقة، أعاد من خلالها بناء الواقع وفق محاكاة استقرائية عاطفية حالمة ينقصها المستند الواقعي أكثر منها توثيقية تسجيلية، فعندما يتابع الخوري خزعل أخبار وسيم من بين آلاف المهاجرين، أو يسأل الحاج علي عنه بعد لقاء عابر، لابد من مسوغات استثنائية تقنع القارئ، وهذا ما يضع الرواية أمام شطط ذهني يفكك التراص المدماكي للنص.
آصف إبراهيم