فيلم وثائقي يفضح خفايا السياسة الألمانية
د. مازن المغربي
جاءت جائحة الكورونا في خضم تصاعد الاحتجاجات الشعبية في مختلف بلدان العالم الغربي فتمّ فرض الحجر الصحي، ومنعت التجمعات، وجرى إلهاء الناس بأخبار الجائحة وتداعياتها الاقتصادية. هذا أمر مفهوم وينسجم مع طبيعة النظام الرأسمالي الساعي إلى قولبة المواطنين وفق النموذج الذي يناسبه، لكن الغريب أن تخشى حكومة بلد مثل ألمانيا من عرض فيلم وثائقي لمخرج عالمي هو كوستا غافراس الحائز على جائزة أوسكار مرتين!.
هذا المبدع اليوناني الفرنسي من مواليد 12 شباط 1933 وهو مخرج ومنتج يعيش ويعمل في فرنسا. بدأت شهرته العالمية مع فيلم “زد” الذي حاز عام 1969 على جائزة أكاديمية لأفضل فيلم بلغة أجنبية، وكان من إنتاج جزائري- فرنسي مشترك، واستند الفيلم إلى رواية حملت الاسم ذاته كتبها فاسيليس فاسيليكوس حول قصة اغتيال النائب اليوناني الديمقراطي غريغوريس لامبراكيس عام 1963 زمن حكم الطغمة العسكرية.
وقد حصل غافراس على دكتوراه فخرية من مدرسة الأفلام في جامعة أرسطو عام 2013، وتولى رئاسة النادي السينمائي الفرنسي من عام 1982 حتى عام 1987 ثم عاد لتولي هذه المهمة منذ عام 2007. أما فيلمه الأخير الذي حمل عنوان “ثمة بالغون في الغرفة” -تعبير إنكليزي يعني أن هناك شخصاً ما يتصرف بنضج ومسؤولية في حين يعجز معظم الآخرين عن مجاراته- فقد أثار إشكالاً من نوع آخر حيث سعت بعض الأوساط الرسمية الألمانية إلى دفع المخرج العالمي للتخلي عن مشروع إنتاج فيلم مستند إلى كتاب ألفه وزير المالية اليوناني الأسبق، يانيس فاروفاكيس تحدث فيه عن معاناته في التعامل مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي خلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت ببلاده، وصنّفت صحيفة الغارديان البريطانية الكتاب ضمن أعظم المذكرات السياسية على مدى الزمان.
خاض فاروفاكيس واحدة من أخطر المواجهات السياسية في التاريخ السياسي المعاصر خلال محاولته إعادة التفاوض حول علاقة اليونان بالاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من الدعم الكبير من الشعب اليوناني لكنه لم ينجح إلا بإثارة غضب النخب السياسية والمالية والإعلامية الأوروبية نتيجة بساطة أطروحاته ومنطقيتها. وأتى كتابه ليفضح الوجه الحقيقي لصناعة السياسة في بلدان الغرب، وجاء في بعض التعليقات الصحافية أن كتاب الوزير اليوناني السابق كشف عمليات التواطؤ، والنفاق، والضغط، والغش التي تهزّ أسس الاقتصاد الأوروبي، في حين رأت وسائل إعلامية أخرى أن الكتاب هو بمثابة رسالة ملحة وعاجلة حول ضرورة إصلاح المؤسسات الديمقراطية في أوروبا.
بدأ انشغال الحكومة الألمانية مع تسرّب أنباء عن عزم المخرج العالمي غافراس إنتاج فيلم مستند إلى كتاب الوزير اليوناني يتناول بشكل ناقد الإملاءات القاسية التي فرضتها برلين على اليونان عام 2015.
بادرت بعض الشخصيات الرسمية الألمانية إلى التدخل بهدف إقناع غافراس بالتخلي عن مشروع إنتاج الفيلم، حيث تحدثت وسائل الإعلام اليونانية في شهر شباط من العام الجاري عن لقاء جرى في مدينة باريس بين السيد كلاوس ريغلينغ، المدير التنفيذي لصندوق إنقاذ اليورو مع المخرج صاحب الشهرة العالمية وطلب السيد ريغلينغ، خلال مأدبة عشاء، من المخرج التخلي عن فكرة إنتاج الفيلم لأنه مستند إلى عرض خاطئ لما جرى حقيقة، فردّ عليه المخرج بأنه قارن ما جاء في كتاب الوزير اليوناني مع التسجيلات الصوتية لاجتماعات المجموعة الوزارية الأوروبية وتحقق من المعلومات الواردة في الكتاب، الأمر الذي أثار غضب المضيف الألماني وعدَه انتهاكاً لخصوصية مسؤولين أوروبيين. بعدها نال هذا الفيلم الوثائقي السياسي جائزة تكريمية في مهرجان البندقة السينمائي في العام الماضي وحظي باهتمام كبير في بعض البلدان الأوروبية.
عرض الفيلم المفاوضات الطويلة التي جرت في شهر كانون الثاني من عام 2015 بين وزير المالية الألماني وحكومة حركة “تسيبراس” اليونانية التي فازت في الانتخابات استناداً إلى تعهدها بوضع حدّ لإجراءات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان. وفي واقع الأمر كانت الإملاءات من إعداد الوزير الألماني فولغانغ شوبليهمن من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والذي يشغل الآن منصب رئيس البوندستاغ، وأدت إلى انهيار الناتج المحلي اليوناني بمقدار الثلث وإلى رفع معدلات البطالة بشكل كارثي، الأمر الذي فرض على الشعب اليوناني معاناة هائلة.
حاول الوزير اليوناني إقناع نظيره وزير المالية الألماني، بتعديل إجراءات التقشف القاسية وقدّم العديد من المقترحات التي عرقلها الوزير الألماني بعناد كما لو أنه أراد معاقبة الشعب اليوناني على خلفية انتخابه حكومة رفعت شعارات يسارية. ولم يتردّد الوزير الألماني، في صيف عام 2015 من تهديد الجانب اليوناني بإخراج اليونان من منطقة اليورو، الأمر الذي كان سيولد تداعيات اقتصادية واجتماعية يصعب احتواؤها، وانتهى الأمر برضوخ الحكومة اليونانية وتعرّض اقتصاد البلاد إلى نكسة ما زال يعاني من تداعياتها حتى الآن.
تمّ عرض الفيلم في صالات السينما في اليونان، وإسبانيا، وفرنسا، وبلجيكا، والبرتغال، وأستراليا، والأرجنتين، في حين حصلت مؤسسة خاصة على حقوق عرض الفيلم في السويد. أما في ألمانيا فتمّ تجاهل فيلم المخرج العالمي وفرض عليه مقاطعة غير رسمية. وكانت الحجة غير المعلنة هي أن موضوع الفيلم لا يهمّ الألمان المشغولين حالياً بجائحة الكورونا وهي حجة أضعف من أن يخصّها المرء بالتفنيد لأن تداعيات الإملاءات الألمانية لا تزال هاجساً يومياً للشعب اليوناني، حيث انخفض الناتج المحلي من 349 مليار دولار أمريكي عام 2008 إلى 277 مليار دولار أمريكي عام 2013، وفقدت اليونان، نتيجة لوصفات “شويبلة” العلاجية، 25% من حجم اقتصادها. كما ارتفعت معدلات البطالة من 7.6 بالمئة عام ألفين وثمانية إلى 27.4 بالمئة عام ألفين وثلاثة عشر. يضاف إلى ذلك اضطرار الكثير من اليونانيين إلى مغادرة البلاد بحثاً عن عمل في بلدان السوق الأوروبية.
يبدو أن المؤسسة السياسية في ألمانيا حريصة على تلميع صورة رئيس البوندستاغ بأي طريقة، صحيح أنه لم يتمّ إعلان موقف رسمي من الفيلم لكن لم يتمّ عرضه في ألمانيا، ولم تتطرق له الصحافة الألمانية على الرغم من أهمية الموضوع وراهنيته. كان التجاهل الإعلامي هو السلاح الفعّال، حيث لم يكتب أي تعليق باللغة الألمانية عن الفيلم وهذه طريقة مجربة وأثبتت فاعليتها في الماضي. ففي عام 2014 نشر الصحافي الألماني أودو أولف كوتة كتاباً حمل عنواناً مثير “صحافيون تم شراؤهم”، تناول فيه شبكة العلاقات الخفية التي تتحكم بالإعلام الألماني بالاستناد إلى تنسيق ثلاثي بين مراكز القرار السياسي، والأجهزة الأمنية، والنخبة المالية. ذكر الرجل تفاصيل مدهشة تضمنت أسماء إعلاميين مشهورين وحقّق الكتاب أرقام مبيعات هائلة حيث أعيد طبعه أربع مرات ما بين شهر أيلول وشهر تشرين الثاني من عام 2014، وكانت الاستجابة الألمانية هي التجاهل الكامل. لم يبادر أي شخص ممن وردت أسماؤهم ضمن قائمة الإعلاميين الذين ربطوا مصيرهم وتوجهاتهم بالنخبة الألمانية إلى رفع دعوى ضد الرجل، بل لم يحاول أيّ من أولئك الإعلاميين الردّ على المؤلف وتكذيبه، وكانت النتيجة أن الرأي العام ظل بعيداً عن الموضوع. وتكرر الأمر في العام الماضي حيث نشر صحافي إسباني اسمه خوان مورينوس كتاباً فضح فيه زميله في دير شبيغل الصحافي الألماني كلاس ريلوتيوس الحائز على جائزة أفضل مراسل صحافي على مدى أربع سنوات متتالية وهو إنجاز لم يحققه قبله أي إعلامي.
جاء في الكتاب أن الرواية التي تبناها الإعلام الألماني حول مسبّبات اندلاع الأزمة السورية في درعا كانت من اختلاق خيال ريلوتيوس الذي ادّعى أنه كان على تواصل مستمر بالفتى الذي كان سبب انفجار العنف في محافظة درعا، لكن بعد انكشاف أمر الخداع أقرّ ريلوتيوس بأن الحكاية كانت من تأليفه، وأنه كتب ما يريد الإعلام الألماني سماعه، وطبعاً تمّ فرض صمت إعلامي على الموضوع!!.
هل يعقل أن تخاف حكومة أضخم اقتصاد أوروبي من عرض فيلم وثائقي مستند إلى كتاب متاح لكل من يريد قراءته؟ يبدو أن هذا هو الواقع وأن كل الحديث عن صون الحريات الديمقراطية، والحرص على حماية الصحافيين والحقيقة ليست سوى شعارات جوفاء لا علاقة لها بالواقع.