الكتابة عن الحرب..!
حسن حميد
أعترف، بأنني ما كنتُ فكرتُ أن أكتب شيئاً عن الحرب التي انخرطتُ فيها مع رفاقي في معسكر كبير، وكتيبة كثيرة العدد، وسرايا متعددة الفصائل، ومن بعد فصيلة صغيرة، بدت لي، ولرفاقي، أشبه بالعشّ، أشبه بأسرة صغيرة جداً لها أبوان هما ضابط برتبة نقيب، وآخر برتبة ملازم أول.
أعترف، بأنني ما وددتُ كتابة شيء عن الحرب.. لأنها الحرب! ولأن كل ما سيكتب عنها معروف.. لأنها جحيم، ونفي للحياة، كدتُ أقول لأنها شنقٌ للحياة، ومواتٌ يمشي ببطءٍ شديدٍ نحو الموت، أو مواتٌ يتفلّتُ من الموت فيمشي ببطءٍ شديدٍ نحو الحياة، ولهذا ما من عاقل (تماماً) يكتب عن جهنم.. لأنها جهنم!
وأعترف أيضاً، بأنني، وبعد مرور وقتٍ عليَّ وبي، وافقتُ خاطري أن أكتبَ عن رفاقي، كي أحفظهم من الموت، لأنني بت أراهم طيوراً تهم بالفرار من أمامي، لتغيب عن عينيَّ في هذه اللحظة أو بعد قليل، لأن لا شيء ينظم حياة الحرب، ولا شيء يحيط بوقتها، فهي متفلتة من الحدود والأسيجة، والحرب لا عرافون لها أو كهنة، لأنها وحيدة، الحرب لها عرافٌ واحد وكاهن واحد هو الموت.
أعترف، أنني كتبتُ عن محاولاتنا الجسورة، متعددة الأوجه والدروب، لكي نخدع الموت، لكي يظنَّ أو يقتنع بأننا لسنا حطب جحيمه، ولسنا ممن يجيدون رسم صورته، وأن أرواحنا أغلى مما يتصوره، وهي عصية عليه، ومذاقها مُرّ علقم، وبعيدة عن يده الطويلة، مثلما كتبت عن خوفنا الذي تعددت أطيافه وأشكاله، لكي نقول جملتنا الذهبية: إننا نحبُّ الحياة!
وأعترف، أن ما كتبته هنا، لا يعني الحرب كلَّها، وإنما يعني حياتنا التي عشناها في الحرب، أعني الصداقات التي لم تكن رائعة طوال الوقت، والمكابدات التي كانت مؤلمة وموجعة طوال الوقت.
وأعترف، أنني لم أتحدث عن عوالم اليأس والإحباط التي عرّشت فوق أرواحنا، عندما قالت أمريكا، ودول أخرى، وبعضها عربية، إننا وراء كل ما يحدث في البلاد السورية، لأنني كنتُ، ومنذ تفتح وعيي، مولوداً في دنيا اسمها الأمل، وأعرف قناعةً أن الشعوب تُهزم، حين تتعاون الشرور عليها، ولكنها لا تنكسر، وقد كانت الأخبار المتعاليات المتواترات في البداية، وكم كانت أيام البداية طوالاً طوالاً طوالاً، كلُّها مفاجآت وخيبات وهزائم!
أسقطتْ يدي، مثل الأشجار، كلَّ الثمار التي نالها العطب، وأبقت ثمارها التي تباهي بها شروق الشمس نهاراً، ونورانية القمر ليلاً، وصفاء الينابيع إن احلولكت الرؤيا وصارت كدراً!
وهل في هذا انحياز؟!
بلى، إنه انحياز للأبوين الحقيقيين، أيّاً كانت صفتهما، ولا سيما حين يتعدد الآباء ويتكاثرون، وقد تعدد آباء الحرب وتكاثروا، ولكنهم ليسوا حقيقيين.. ولن يكونوا!
وأعترف، بأن الذين زلّهم التراب والمعنى.. سيفرحون لأنني لم أذكر مثالبهم، ولم أصف قبح نفوسهم، ولا انحناءاتهم وهم عراة.. وأكثر، وقد وددتُ أن أذكرهم، وأذكر حالات الانطفاء والبهوت والارتماء التي رأيناهم عليها، بعد أن كانوا أهل خطابة، وادعاء، بأنهم يحبون البلاد، بلى وددتُ أن أذكرهم وأذكر سيرهم.. ولكن الحبر الأسود عصاني، وصدَّ عنهم! مع أن قلبي كان يهتف بي، اكتب عنهم، اكتب عنهم لأن أيديهم كانت طوالاً فنالت وجوهنا ضرباً، وأقدامهم كانت طوالاً فنالت ظهورنا وأقفيتنا ضرباً، وكانت نفسياتهم حامضية فكدرت علينا التفكير بكل نبيل… وأمرضت نفوسنا!
هنا روحي، وروح رفاقي.. فقط، رفاقي الذين عاشوا الحرب، ولم يفترقوا، حتى بعد أن صارت الدنيا ضفتين: واحدة للحياة، وثانية للموت، ولكنهما، أعني الضفتين، حين تجتمعان تصيران بستان الحضور الذي ساهرناه خطوةً خطوةً، وروحاً روحاً، وقريةً قريةً، ومدينةً مدينةً، وحلماً حلماً.. حتى أورق هذا البستان، ثم أزهر.. وأثمر!.