ثقافةصحيفة البعث

كتابة التجربة.. وتجربة الكتابة

أحمد علي هلال

في زمن مضى كتب أرسكين كالدويل كتابه الباهر «اسمها تجربة»، ولعله كان يشي للكتابة بأن تنفتح على ممكنات العيش والوجود، وأفعال الكينونة والصيرورة التي تمر عبر التجربة لتصطفيها الكتابة، بما يجعل من الكتابة مؤسسة بذاتها، هكذا تواضع النقد على اعتبارها كذلك وهو ينظر إلى الكتابة بوصفها ممارسة إبداعية مختلفة لعلها تكتمل بالتجربة لاسيما في ممكناتها وفي حدوسها، وبالقدرة على ما تستطيعه من جعل الواقع واقعاً جديداً، وذلك لا يعني أبداً أن تنفصل الكتابة عن الواقع انفصالاً ناجزاً، بل تحايثه إن صح التعبير، وليصبح هذا الواقع الجديد صورة التجربة وخصوصيتها، بل وفرادتها التي سيشتق منها الإبداع غير منظومة جمالية تليق به، ولطالما -نحن- كقراء محتملين ننظر إلى مؤسسة النص بوصفها منظومة لا تتجزأ من النص إلى الكاتب إلى القارئ إلى العالم، إذن النص مرآة العالم، من تلتقط التجربة لتعيد تأويلها ويعيد القارئ استدراك –ذلك النقص الضروري- الذي تتوسل الكتابة إشباعه على المستوى الجمالي والرؤيوي، تلك معادلة الإبداع الأثيرة التي تجعل من التجربة حقاً مجمع المرايا وقطبا الذات والعالم، حينما يلتقيان على أفق إنساني، يتصادى فيه وجع الإنسان وتوقه، بل حلمه الذي يسعى لرؤيته، وليست الكتابة محض ترجمة للأحلام، لكنها الناطقة بها والتي تجهر بكثافاتها الواعية بعيداً عن طغيان تفاصيلها، فكيف يلتصق المبدع بتجربته ليصبح هو التجربة بذاتها؟.

حتى التجارب الأقل انعكاساً للحياة ستبدو بمثابة الإرهاصات الأولى صوب استحقاق كبير، هو فعل الكتابة لا سيما في الأوقات العصيبة، وفي الأزمنة التي لا تشبه إلا ذاتها لأنها المتطيرة إلى الروح وإلى فضاءاتها الملونة بممكنات تلك التجربة، ذلك أن النص العظيم هو صنو تجربة عظيمة، تُعاش وتُلتقط لكنها في الأدل تُوظف لتصبح أكثر من تجربة مع اللغة بذاتها –اللغة ككائن جمالي- بمعنى آخر لتنفتح حدوس اللغة على أقصى فعاليات التخييل دون أن تسقط الواقع، بل تلتقي به على نحو أو آخر، لأنها –الكتابة- كمون واعٍ يحتاج إلى برهات تأملية لتكتمل شروط التجربة بالمعاناة والتأمل والقدرة على الخلق، ذلك ما يجعلنا نتساءل عن كثير من النصوص الإبداعية الفائضة عن الواقع وبه، ما مقدار التجربة فيها، وكيف تعبر التجربة عن فهم جدلية العلاقة مع العالم/ العالم المتسارع زمناً وحكايةً وأحداثاً وشخوصاً عابرين، وأفكار تبدو كإشراقات وليدة ثم تتشظى كمرايا محدبة أو مقعرة، فيما تبقى نصوص غيرها أشبه بأسفار متقطعة إلى الذات تبدو لغتها كنوتة مازالت أصابع العازف تدوزنها لتعثر على لحن الصباح متسقاً بما يكفي ليكون أشبه بنشيد الخلاص، وهذا النشيد بطابعه جمعي بخصوصيته الفردية، أو أشبه بإيقاع الروح، ذلك الإيقاع المتطير من تجهم الأوزان والإيقاعات الخارجة عن قوانين النصوص، أو كلاعب نرد لا يُسرع به الحظ إلى النجاة ما لم يبذل غير محاولة لتتسع رقعته ويذهب النرد أبعد من حدود الظنون، هي الكتابة إذن تجربة مع اللغة وباللغة، لكنها أكثر من ذلك هي رحلة إلى البداية التي تًعاد غير مرة مثل الكتابة التي تجدُّ للعثور على وعيها الممكن.