“بيت الشغف”.. هشام كفارنة يلقي الجوكر على مسرح الحمراء
“ماذا نُقدم للجمهور؟”، السؤال الذي بقي سائداً في الفنون عموماً، والدراما بأنواعها بشكل خاص، ما من قيمة له اليوم أمام سؤال آخر: “كيف نُقدمه؟”، فأي حكاية مهما كانت موغلة في البعد الزمني والتاريخي، أو كانت مُحاكة من نسيج آخر، وفي مكان آخر، مُختلف المناخ الثقافي بأبعاده متعددة المظاهر والتجليات، إذا توفر لها الإعداد المناسب لتقديمها للجمهور مع مراعاة شروط هذا الجمهور وظروفه الاجتماعية والثقافية، هي قابلة للتقديم ولكن بعد إخضاعها درامتورجيا لتكون صالحة لذلك، ولنا في “روميو وجولييت”، الحكاية المسرحية الشهيرة لشكسبير، مثال جلي على ذلك، ففيلم “التايتنك”، من أشهر أفلام القرن العشرين، على سبيل المثال لا الحصر، ما هو في الواقع إلا إعادة رواية حكاية روميو وجولييت نفسها المكتوبة قبله بمئات السنين، ولكن عوضاً عن أن يكونا في ايطاليا، هاهما يعيدان السيرة ذاتها ولكن على ظهر سفينة، مع التعديلات التي تتناسب وشكل التقديم الجديد.
السؤالان أجاب عنهما الفنان والمخرج المسرحي المخضرم “هشام كفارنة” في العرض المسرحي “بيت الشغف” الذي يُعرض هذه الأيام على خشبة مسرح “الحمراء” بعد أن أعده وأخرجه لصالح المسرح القومي، عن المسرحية الشهيرة “حب تحت شجرة الدردار” للكاتب الأمريكي “يوجين أونيل”، وذلك بعد مدة من التوقف عن تقديم العروض المسرحية، دون الابتعاد عن المسرح، سواء كان مدرباً أو مدرّساً أو مشرفاً على مشاريع وأشغال مسرحية بحتة.
فيما يخص السؤال الأول “ماذا نقدم؟”، جاء الاقتراح من ابنته الممثلة خرّيجة المعهد العالي للفنون المسرحية، قسم التمثيل، ووقع الاختيار على اقتراحها، أما السؤال الثاني “كيف نقدم؟”، فكانت فيه لكفارنة مقالته المتعلقة أولاً بشخصيته كفنان مسرحي الهوى والهوية، تركت خشبة المسرح وما كانت تقدمه من أعمال مسرحية، سواء شارك فيها أو شاهدها، في روحه وشخصيته ما تركت من حب عميق لهذا الفن، ومن فهم متشبّع بالخبرات التي راكمها في وعيه لقيم أبي الفنون، ولدوره الفكري والمتعوي والتوعوي في كل زمان، لذا جاء خياره أن يقدم هذه الفرجة المسرحية لجمهور المسرح بالطريقة المسرحية الكلاسيكية، خصوصاً أن المضامين كثيفة وجريئة في الطرح، أن يُشعر الجمهور بأنه يشاهد مسرحاً صرفاً دون بهرجة السينوغرافيا، وإبهار الإضاءة، أو تغريب الديكور، أو اللجوء إلى التقنيات الحديثة التي صارت تصادر الفرجة المسرحية نفسها لصالحها، مطوّعاً العناصر الفنية الكلاسيكية المكونة للعمل المسرحي لتكون في خدمة الحكاية، دون أن يطغى أي مكوّن فني على العمل، وما يطرحه من قضايا إنسانية بحتة لا تحتمل لوطأتها وثقلها أن يُعطّل عليها أي شيء سياقاتها المأساوية، قضايا تتعلق بالجوانب المظلمة في النفس البشرية، وما يسود ويموج فيها من اضطرابات نفسية شريرة عاصفة، سواء كانت مبررة أو لا.
المسرحية التي ضمت في نص أونيل 13 شخصية، جعلها “كفارنة” 4 شخصيات فقط، وهذا ما جعل المخرج يذهب في اقتباسه نحو التكثيف، مع الاعتماد أيضاً على الرمز والدلالة والتلميح سهل الوصول للمتلقي، مركزاً على الموضوعات الرئيسية والجوهرية للحكاية، أمراض النفس البشرية وما تُوصل إليه من فجائع باختلاف أسباب هذه الأمراض، لذا تخلّص المخرج من العديد من الخيوط الدرامية في العمل الأساسي، مقدماً الموضوع الرئيس الذي يتمحور في مجمله عن: “الطمع، الجشع، الكره، الطموح الذي لا تعنيه الوسيلة حتى ولو انحطت لسفالة سفاح القربى، البخل والشره، الوضاعة والبشاعة التي تخرجها النفوس البشرية تحت ضغط أقدار قاسية لا هوادة فيها”، تاركاً هذا العبء كله على كاهل أربعة ممثلين: “صفاء رقماني، أمانة والي، يوسف المقبل، مجدي المقبل”، مقدماً فرجة مسرحية صافية، “بيور”، فيها كل عناصر العرض المسرحي المتقن، إن كان بالسينوغرافيا ومفرداتها: الإضاءة التي تعطي انطباعاً مستمراً بالقلق، الموسيقا المتواترة مع ذرا الأحداث والمتسقة مع السياق العام للعرض، الديكور البسيط والضروري لمكان الحدث، الميزانسين المحكم لهذه الفرجة، لكن أهم ما في عمل المخرج ظهر بيّناً واضحاً بالأداء الكبير الذي قدمه الممثلون، وصفاء رقماني كانت ورقة الجوكر الرابحة.
شخصياً لا مانع لدي أن أعيد مشاهدة العرض أكثر من مرة بسبب الأداء البارع والمتقن والفريد الذي قدمته هذه الفنانة المفاجئة فعلاً، المختلفة تماماً عن الممثلة التي نعرفها على الشاشة: تنويع في الأداء الصوتي والحركي منسجم وطبيعة الحوار والميزانسين العام للعرض، ليونة عالية ورشاقة جسدية وصوتية ونفسية أيضاً في الانتقال من حال إلى أخرى بسلاسة بليغة رغم مشقة الفعل، الانفعالات الحسية الباذخة التي ترجمتها بكل ما فيها حرفياً وبالشكل الأمثل، وإن كان أحد أهم أعمال المخرج هو الإشراف على الأداء، فقد حقق كل من كفارنة وصفاء رقماني مُعطى مسرحياً رفيعاً عن جوهر فن التمثيل في “بيت الشغف”، الأمر الذي لم يكن على المستوى نفسه مع المخضرمة أمانة والي، ولكن الموضوع ليس من باب المقارنة، فما قدمته “صفاء رقماني” من أداء على خشبة المسرح ولمدة 50 دقيقة من الأشغال المسرحية الشاقة، من الصعب أن يتكرر، وشخصياً أعتقد، إن حظي “بيت الشغف” بفرص لعروض عالمية، أن تحقق رقماني شهرة كبيرة كممثلة مسرح، وأن تحجز لها مقعداً متقدماً بين أهم ممثلات المسرح في العالم.
التفاوت في الأداء ينسحب أيضاً على المخضرم يوسف المقبل الذي يواجه ابنه البيولوجي “مجدي المقبل” على الخشبة، فالأب صاحب الخبرة الطويلة في الأداء المسرحي، لم يستطع الابن مجاراته رغم المساحة الواسعة للدور، ولهذا عندما نتكلم عن كون أداء الممثل على الخشبة هو ما يؤكد مقدرته الفنية ومهارته التقنية في الأداء، فهذا ليس من باب اللغو، بل هو حقيقة علمية وفنية أيضاً.
“بيت الشغف” عرض مسرحي متكامل، تنسحب البساطة عموماً على أجوائه، ولكن هذا في الشكل الذي اختاره مخرج العمل ومُعدّه وفق رؤية واضحة للعقدة الدرامية، وتقديمها بسلاسة دون تعقيدات أو استعراض، منحازاً إلى تقديمه بلغة فصيحة بيضاء غير متقعّرة، سهل استيعابها من المتلقي.
العرض مستمر على خشبة مسرح الحمراء في الساعة السابعة مساء، وهو من إنتاج وزارة الثقافة- مديرية المسارح والموسيقا.
تمّام علي بركات