اجتهاد مبشّر لـــ فينوس الحسن في “كيس السكاكر الطائر”
لا ريبَ أبداً في أنّ من بين أهم أهداف القصة القصيرة الموجّهة للأطفال، تنمية الحسّ الإبداعي لديهم وتحفيزهم على القراءة، جنباً إلى جنب مع إفهامهم معنى وضرورة الإيمان المبكر بالقيم والمبادئ والمثل العليا، بما فيها الإنسانية والوطنية، وتحسين مهاراتهم اللغوية والذهنية والتخييلية، وأهمية اقتناء الكتاب.. الخ، بيد أن هذه الأهداف ستبدو منقوصةً ما لم تأتِ القصص على سوية فنية عالية ومقدرة كاتبها أو كاتبتها على توظيف الحكاية والشخصيات، وصولاً إلى إتقان السرد والحوار المشوّق، دون الإغراق في المثالية والتربوية الصارمة والمبالغة في الأحداث أو تشعبها، وخاصة عندما يكون هذا الكاتب من فئة الأطفال أو الناشئة أو الشباب، حيث يمكن أن يقع تحت غواية الكتابة للكتابة والخيال المسترسل فقط، وقد يشطح كثيراً في أحداثه وشخصياته. لكننا وعلى الرغم من ذلك نزعم أن هناك تجارب عدة في سورية تحرّرت من غواية الكتابة للكتابة وارتقت في منتجها فنياً، وقدّمت نصوصاً يُعتدّ بها، ومن بين هؤلاء الكاتبة الشابة فينوس الحسن التي عرفناها شاعرة وقاصة، شاركت في عددٍ كبيرٍ من الأمسيات والملتقيات الأدبية، ونشرت نصوصها في الصحف والدوريات المحلية والعربية، قبل أن تتقدم مؤخراً لامتحانات الشهادة الثانوية.
في مجموعتها القصصية الأولى “كيس السكاكر الطائر” الموجهة للأطفال، والصادرة ضمن منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب برسوم معبّرة للفنان تيم رائد حامد، تنحو الكاتبة فينوس الحسن، منحى واعياً يراعي شروط هذا النوع من القصّ، الذي يعتمد في مجمله على بساطة الحكاية وعفوية الفكرة المتواشجة مع لغة واضحة تحاكي خيال الطفل وحاجته الروحية والعاطفية، وتذهب نحو شخصيات فردية أو جمعية قريبة لكلّ واحد منا، بل إنها تلجأ إلى أنسنة الكثير من الأشياء بغية إيصال فحوى فكرتها المشبعة بالإشارات والدلالات العميقة.
ففي قصة “أخوة متصالحون” تحضّ الكاتبة على فضيلة المحبة والتنويه بأن لكلّ منا دوره في سيرورة هذه الحياة، وذلك كلّه محمول على حكاية ترويها الطفلة لميس عن حوار رشيق يدور ما بين عقارب الساعة الثلاثة (الساعات، الدقائق، الثواني)، والخلاف بينها، وكيف تنتهي الحكاية بإدراك كل واحد طبيعة دوره ووظيفته.
وفي “كيس السكاكر الطائر” تنتظر الطفلة سلمى عودة والدها الغائب، وفي حلمها أن يحضر لها كيس سكاكر هدية السفر، كلما فرغ امتلأ وحده، الأب الحنون ماهر الذي يعمل سائقاً لنقل البضائع إلى بلدان العالم سيقضي لدى عودته بانفجار يؤدي إلى استشهاده، فلا يبقى من ذكرياته إلا كيس السكاكر الذي أهداه لابنته سلمى.. وما زالت توزّع من سكاكره حتى اليوم على أحفادها.
أما في قصة “تمثال الثلج الكبير” فتروي لنا الحسن حكاية الطفلة التي سمعت بأن الذي يصنع تمثال ثلج كبيراً سيعمّ السلام في وطنه، فتقوم بجمع الثلج الكثيف وتصنع التمثال الذي ستستبشرُ به ذات صباح بعد أن استيقظت من ليلة متعبة باردة، وهو يشير إلى البعيد، فتقول: “نظرتُ من نافذة غرفتي، شاهدت السماء صافية زرقاء، بينما الناس فرحون بعودة السلم والأمان لوطني الحبيب سورية”.
وفي قصة “الاتفاق” تتذرّع الطفلة رهام بالمرض لتختبر محبة والديها المختلفين دائماً، ولتكتشف قدرتها على إحياء الحب في قلبيهما كلّ نحو الآخر، وأنها يمكن أن تكون مركز هذا الحب ومنتهاه.
في حين ستعود الطفلة هدى في قصة “فرح لم يكتمل” بفرح مكسور وهي تخبر أمها الأرملة بأنها الأولى على زميلاتها في الصف، وتقف أمام صورة والدها المزروعة في صدر الغرفة وعليها شريط أسود، تذرفُ الدموع وهي تحلم بقرطين ذهبيين، وتستيقظ دائماً على وسادتها المبلّلة بالدموع الغزيرة، وفي أذنيها يدوي صوت انفجار عنيف.
أما القصة الأخيرة “حكمة جدي” فتروي حكاية الفلاح النشيط “أبو خليل” الذي اشترى قطعة أرض مليئة بالأشواك والحجارة الكثيرة، وكان يتذكر كلام جده وحكمه أن كنزاً كبيراً في هذه الأرض، ليكتشف أبو خليل بعد أن أبعدَ الأشواك والحجارة وحرثها جيداً وبذر فيها حبات القمح كيف تحوّلت الأرض إلى مروج خضراء وسنابل ذهبية تطير بينها العصافير والفراشات، فــ”أحبها حباً كبيراً وعشق وطنه أكثر”.
في القصص الست ثمّة اشتغال على فنية القصّ وكثافته، واللغة الفصيحة المضبوطة، والاعتماد على الفكرة الموحية والسرد البسيط، الذي تتخلّله حوارات لن تشكّل عبئاً على انسيابية هذا السرد، وفي الوقت نفسه سنلمسُ قدرة الكاتبة على تقمّص شخصيات الراوي في كل قصة، إذ اختارت أن يكون الراوي طفلة/ أنثى، وهو العالم الأقرب لوعي فينوس الحسن والأكثر استيعاباً للمغزى الذي تريد إيصاله، وسيدهشنا أيضاً الحوار بين عقارب الساعة أو القرطين الذهبيين أو الفتاة وتمثال الثلج، وكيف استطاعت الكاتبة أنسنة هذه الأشياء التي لم تكن عابرة في نسيج الحكاية وفصولها.
وعلى هذا يمكن القول أخيراً: إن “كيس السكاكر الطائر” إنجاز مبكرٌ ومبشّرٌ في آن معاً، وهو خطوة اجتهدت فينوس الحسن فيها كثيراً، ستؤسّس لتجربة مختلفة في القصة القصيرة السورية، ولاسيما تلك الموجهة للأطفال.
عمر محمد جمعة