الرئيس التونسي ممهداً للجمهورية الثالثة: حان وقت مراجعة الشرعية
دعا الرئيس التونسي قيس سعيد إلى مراجعة النظام السياسي القائم، والذي أثبت البرلمان الغارق في الفوضى حالياً أنه لم يعد يعكس ما يطمح له التونسيون، وقال، خلال اختياره وزير الداخلية هشام المشيشي لتكليفه بتشكيل حكومة جديدة خلفاً لحكومة إلياس الفخفاخ المستقيل: “نحترم الشرعية لكن آن الأوان لمراجعتها حتى تكون بدورها تعبيراً صادقاً وكاملاً عن إرادة الأغلبية”.
وأوضح بيان نشرته الرئاسة أن اختيار سعيد، وهو أستاذ قانون دستوري، “يأتي بعد الاطلاع على المقترحات التي تلقتها رئاسة الجمهورية من ممثلي الأحزاب والكتل النيابية، وطبقا للفصل 89 من الدستور.
وأمام المشيشي شهر لتكوين حكومة جديدة ستمر إلى نيل ثقة البرلمان قبل بداية عملها.
وقال سعيد خلال تكليف المشيشي: إن التجاذبات السياسية والصراعات داخل البرلمان أضاعت الوقت وحرمت التونسيين من حكومة تستمع لمشاغلهم وتنفذ الإصلاحات التي يطالبون بها منذ سنوات، وتوجه للتونسيين متسائلاً: “إلى متى وإلى أين”، معبراً عن “انشغاله لما استغرقه مسار تكوين الحكومة” من وقت تاريخ الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية، وأضاف أن “الاستجابة لمطالب شعبنا المشروعة والطبقات المحرومة من أوكد الأولويات”، مشددا على أن “الحفاظ على السلم الأهلية واجب مقدس لا مجال للتسامح فيه وأن احترام القانون لا يقل قداسة عنه”.
ولم تصدر إلى حدّ الآن أي ردود أفعال رسمية عن الأحزاب والكتل البرلمانية، لكن عددا من الناشطين السياسيين وأنصار بعض الأحزاب التي تتصارع داخل البرلمان علّقوا على هذا التعيين بين مرحّبين ومنتقدين.
وعارض القيادي في النهضة عبدالحميد الجلاصي اختيار الرئيس التونسي للمشيشي منتقداً تركه مقترحات الأحزاب جانباً، حيث وصف ذلك بـ”الأقرب للإداري منه إلى السياسي”.
ويمنح النظام السياسي في تونس، الذي يمزج بين الرئاسي والبرلماني، حزب الأغلبية في البرلمان اختيار مرشحه لتشكيل الحكومة، وهو ما حصل مع حزب حركة النهضة الفائزة بانتخابات. لكنها فشلت أكثر من مرة في التوافق على شخصية موحدة إلى أن تم اختيار إلياس الفخفاخ بتكليف من سعيد أيضا إلى أن قدم استقالته على إثر ضغوطات من النهضة وحلفائها.
وفشل مرشح النهضة، الحبيب جملي، في نيل ثقة البرلمان في كانون ثان الماضي بعد استنفاد الآجال القصوى في الدستور، وجرى نقل المبادرة السياسية إلى الرئيس بحسب الدستور، والذي اختار الفخفاخ ليتولى ترؤس الحكومة في شباط.
ويمنح الدستور رئيس الجمهورية صلاحية اختيار “الشخصية الأقدر” في هذه الحالة بغض النظر عن ترتيب الأحزاب في البرلمان.
ويشير اختيار سعيد للمشيشي إلى لجوئه لفرض الأمر الواقع بحكومة غير متحزبة بعيدة عن صراعات السياسيين أو حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة وهي فرضية تخيف حركة النهضة خاصة وحلفائها خاصة قلب تونس وبعض الكتل الصغيرة التي تمكنت من الحصول على بعض المقاعد خلال الانتخابات الماضية بعد أن روجت لخطابات شعبوية فضحتها الصراعات التي تدور في البرلمان منذ أشهر وتعطل سير المؤسسة التشريعية الأولى في البلاد التي تعاني أزمة اقتصادية واجتماعية حادة.
ولا يبدو أن هذه الأحزاب والكتل على استعداد لخسارة نفوذها في البرلمان المتشظي حاليا لكن قبولها لحكومة المشيشي سيضعها أمام خيار الاصطفاف في المعارضة لتعطيلها دون تحمل المسؤولية التي كانت ترفضها حين كانت تشارك في الحكومات السابقة وهي الفرضية الأكثر ترجيحا لاتباعها من قبل النهضة في الأيام المقبلة.
وأشارت آخر استطلاعات للرأي في تونس إلى تراجع حركة النهضة في نوايا التصويت بشكل لافت فيما يشهد الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي الخصم الأكبر للغنوشي، تقدما كبيرا، علاوة على عدد كبير من التوسيين الذين عبروا عن نيتهم المشاركة بشكل مكثف على الأرجح هذه المرة إذا تم اللجوء إلى انتخابات مبكرة على عكس العزوف الكبير الذي شهدته الانتخابات الماضية خصوصا من الشباب وهو ما يرجح التصويت لشخصيات قريبة في توجهاتها لسعيد أو لموسي أو لشخصيات مستقلة.
وفي نفس السياق تخشى النهضة أيضا خسارة نفوذها في البرلمان حتى إذا تم تمرير حكومة المشيشي، حيث يسعى عدد من الأحزاب حاليا لسحب الثقة من رئيسها راشد الغنوشي من على رأس البرلمان. وقد تم اختيار المجلس يوم الخميس المقبل لعقد جلسة سحب الثقة وهو اليوم الذي يرى فيه التونسيون حيلة من الحركة الإسلاموية كونه يتزامن مع يوم عطلة العيد وسيشهد غياب العديد من النواب وبالتالي سيكون التصويت غير مكتمل.
وأظهر تكليف المشيشي قبولا شعبيا في تونس إلا من قبل حركة النهضة وحلفائها ائتلاف الكرامة وقلب تونس الذين قام أنصارهم وبعض القياديين فيها بانتقاد الرئيس قيس سعيد على مواقع التواصل الاجتماعي متهمين إياه بالاستئثار بالقرار.
وتلقى سعيد قبل ترشيح المشيشي مقترحات من الكتل البرلمانية لمرشحين لمنصب رئيس الحكومة، من بينهم شخصيات من أحزاب مختلفة وبعض رجال الاقتصاد إضافة إلى وزراء في الحكومة الحالية، لكن نشطاء تونسيون عبروا عن رفضهم لأغلب تلك الأسماء حيث نشروا ملفات لقضايا فساد تتعلق بالبعض منهم فيما تم تذكير البعض الآخر بتاريخهم السياسي الفاشل على مر السنوات الأخيرة.
ولا يفرض الدستور التونسي على رئيس الجمهورية التقيد بترشيحات الأحزاب والكتل البرلمانية بعد استشارتها. ويشير اختيار سعيد للمشيشي الذي كان قد شغل منصب المستشار الأوّل للرئيس سعيّد للشؤون القانونيّة، إلى توجه الرئيس إلى اعتماد حكومة موحدة لا تعطل أعمالها تدخلات الأحزاب ويثق برئيسها ويأتمر لتوجيهاته، كما تكشف أيضا التحديات الأمنية التي تمر بها تونس حاليا خصوصا مع التدخل التركي في الجارة ليبيا والذي يتم بدعم من الإسلاميين في تونس وطرابلس.
يذكر أن الرئيس التونسي المتخصص بالقانون، أصبح يوجه انتقاداته لاذعة “لبعض الأطراف” والأحزاب، وتشير تصريحاته بشكل واضح إلى حركة النهضة التي أصبح رئيسها راشد الغنوشي يستغل منصبه كرئيس للبرلمان لتوجيه السياسة الخارجية والدبلوماسية التونسية وهي من صلاحيات الرئيس المحدودة في صالح حزبه الاخواني بهدف جر تونس إلى سياسة المحاور وخاصة في الملف الليبي.
وأظهر تسريب تم تداوله مؤخرا من اجتماع لمجلس شورى النهضة استهانة الغنوشي بمعارف قيس سعيد ساخرا من أدائه في الملف الليبي.
يذكر أن سعيد الذي لا يملك خبرة سياسية لكن يشهد لنزاهته وولائه لتونس رغم الغموض الذي يحوم حول توجهاته، فاقت نسبة انتخابه في الرئاسيات نسبة 70 بالمئة وبعدد أصوات تجاوز أصوات الأحزاب مجتمعة في الانتخابات التشريعية التي أجريت خلال الشهر نفسه وفازت بها النهضة.
وكان بين المقترحات التي ناقشها سعيد خلال حملته الانتخابية مراجعة النظام السياسي من أجل العودة إلى نظام رئاسي لكن بصلاحيات مختلفة للحد من تشتت السلطة بين البرلمان والحكومة والرئاسة.
ويبدو اختيار الرئيس للمشيشي الذي كان رئيساً للديوان في وزارات النقل والشؤون الاجتماعيّة والصحّة وأيضا خبير مدقق باللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، يهدف إلى منع الأحزاب والكتل البرلمانية من تعطيل حكومته المقبلة نظرا لخبرته في الإدارات التونسية ومؤسسات الدولة ونزاهته بشأن أي ملفات مشبوهة يمكن للأحزاب استخدامها لابتزازه كما حصل مع الفخفاخ ورؤساء الحكومات السابقة.
ولم يعد يثق أغلب التونسيين في الأحزاب والسياسيين المشاركين منذ سنوات في الحكومات التي تعاقبت على الحكم حيث طغت المصالح الحزبية والأجندات السياسية على الإصلاحات الاقتصادية والتنمية الاجتماعية.
وتزامنت تصريحات سعيد مع العيد الوطني للجمهورية التونسية ويرى مراقبون للشأن التونسي أنها بمثابة إعلان للاستعداد للجمهورية الثالثة في ظل عجز النظام الحالي الذي أعطى صلاحيات كبيرة للبرلمان عن تنفيذ مطالب التونسيين والخروج بالبلاد من الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها وفشلت الحكومات التي تعاقبت في السنوات الأخيرة على أيجاد حلول لها مثلما وعدت الأحزاب التي تم انتخابها خلال حملاتها الانتخابية.