مروان محفوظ في ضيافة أبو فادي وجوزيف صقر
واحدة من أهم ميزات مدرسة الرحابنة (عاصي – منصور) أن الفنانين الذين تخرجوا من تلك المدرسة تشربوا عشقها وتمسكها بالفن الأصيل الخاص بهم وبموطنهم الطبيعي، الحقيقي، والعمل على تحديثه من روح الفن نفسه، تحديثا منسجما مع جماليته وفرادته، مع رهافته وصلابته، مع معانيه الرفيعة التي عُبر عنها بأجمل ما يكون من الشعر، فنهم الأجمل، فن قراهم وجبالهم التي جاؤوا من بين ينابيعها وصفصافها، مروا تحت كرومها وعناقيد عنبها، لعبوا بين شتلات تبغها وحواكير النعناع فيها،غنوا بين وديانها وذرى جبالها العتابا والميجانا، الدلعونة وهيهات يا أم الزلف، وجعلوا كل من استمع لما قدموه يعشق ما يسمع حتى لو كان من بيئة مختلفة الذوق الفني تماما.
هذا كان في الوقت الذي كانت فيه الكلاسيكية الموسيقية، سواء العربية أو الغربية، هي السائدة بين الجمهور، في تقليد أجوف للغرب، من باب “الموضة” التي دخلت علينا من كل سرداب ودهليز وجحر، ما يحُسب لهؤلاء الفنانين أنهم أرسو هذا الفن كواحد من أعرق الفنون في بلدهم وبلدان مجاورة بل وجعلوه من الفنون العالمية، ووحدوا الناس على محبة فن جامع، جلبه الرحابنة من مختلف الجغرافية الشامية، ومن مختلف الأزمنة، وقدمه الفنانون الذين دخلوا تلك المدرسة المجيدة بأصوات “تشلع” القلب من بين “درفات” الصدر، فابن حلب وابن الشام، ابن ادلب وابن درعا، ابن بيروت وبعلبك والجنوب، ابن حيفا ويافا والساحل السوري الطبيعي دون أي حدود، سوف يستمع مثلا “لسهرية حب” لمئات من السنين القادمة دون أن يسأم منها، ليس كمستمع لفن آخر، بل لفنه هو الذي يحب.
أحد أهم أولئك الفنانين غادرنا إلى حيث ينتظره من سبقه من رفاقه في “سهرية”، ولعل جوزيف صقر منشرح الأسارير هذه الأيام، فقد جاءه من يستطيع أن يغني له: “أووووف، تغير هوانا” فيرد عليه ضاحكا “جبل مع جبل”، وهاهي صباح تلاقيه بـ “أهلا بهالطلة أهلا” “فيدرغل” لها: “يم الشال الليموني”، ولعل “أبو فادي”حيث يتكئ وفي يده سبحة بعلبكية معطرة بنبيذ قانا، يناديه بالاسم الذي أطلقه عليه عوض “أنطوان”: مروان وينك يا زلمي” فيجيبه: “سرقني الزمان”.
لا ريب فنان بحجم وديع الصافي يعرف لماذا اختار له هذا الاسم، بالتأكيد وهو عرابه الفني لم يختره عن عبث، فكل معنى فيه يدل وبشدة على طبيعة “أنطوان محفوظ” وشخصيته، فهو أولا اسم علم مُذكر عربي، وأنطوان محفوظ عربي الهوى والهوية، فنه يدل عليه، وهو نسبة إلى “المَرْو” والذي واحدته مروة وهيَ الحجارة الصلبة والتي تعرف بالصوّان؛ وهكذا كان هذا الفنان الأصيل، صوانا في صوته الهادر، وفي نفسه الصلبة في موقفها من القيم الإنسانية الثلاث “الفن-الخير-الجمال”، الصوان الذي يُقدح به الزند لترسل شرر النار،وفعلا كان يكفي أن يطلق “أنطوان” (أوفا) لتقدح بصوته الشرارة في القلوب،. و”المَرو” أيضا هو اسم جنسٍ من نبات الريحان، وكم كان “أنطوان” رقيقا كالريحان عندما غنى بصوت من حبق “خايف كون عشقتك وحبيتك”.
لم يكن خبرا مفاجئا، الرحيل عن هذا العالم بشكل عام لم يعد بالمفاجئ أو المدهش، لكنه مؤلم ومحزن، وهكذا جاء رحيل مروان محفوظ، جبل من جبال الفن السوري والعربي، محزنا، مؤلما، فاللطف، الحب، الرقي والإنسانية، الوطنية والانتماء، هذه المفردات الإنسانية التي ملأت حياة هذا الرجل وترجمها بأجمل ما قُدم من أغان تعبر عنها وعن جوانياته، هي من مكونات روحه البيضاء، تلك التي تقاسمتها الشام بربوعها من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، فهذا الرعيل من الفنانين لم يعترفوا لا بسايكس بيكو ولا بغيرها من اتفاقيات الذل والتقسيم، فظلت الشام عندهم هي الشام التي عرفوها وعرفها أباؤهم وأجدادهم من قبلهم، بعد أن حفروا جيناتها في دمائهم وفوق جباههم، لذا أي مكان فيها هو موئل قلوبهم، ولله در “مروان محفوظ” إذ اختار واسطة العقد “دمشق”، لتكون حيث يتنفس الحياة وتتنفسه، ولتكن أيضا معراج روحه في رحلتها صوب عوالم لا ريب أنها فرحة بقدومه إليها.
ليست علاقة مروان محفوظ بدمشق علاقة فنان كبير بواحدة من أهم وأقدم العواصم الفنية والثقافية والفكرية في العالم، بل كانت علاقة فلاح بشجرة زيتون تفيأ ظلها وأكل من ثمرها ورطب حلقه بزيتها الصافي كالغدير، علاقة ابن بار بأمه الرؤوم، قلبه يخفق بين جانحيها، وروحه هائمة بعطر ياسمينها الذي تنشره على حبال الغسيل والشرفات، على الأسطح والأسوار، على مقاعد الحديقة وحول قلوب العشاق، غنى لها، لألفتها، لجمالها، لروحها، لعظمتها، لمواقفها، لبطولاتها، ولم تبادله الشآم إلا الحب بأكبر منه، والود بالورد والخير، والانتماء بالهوية، فحيث يغمض المرء عينيه لآخر مرة، تكون الأرض التي أسبل جفنيه على ترابها، هي بوابة روحه إلى حيث تهفو أن تكون.
ما تركه الفنان الكبير مروان محفوظ من نتاج فني فيه كل مقومات الجمال والخير والحق، بصوت نحتته أزاميل من ورد وصوان، كان تذكرته للعبور نحو الأبدية والخلود، تذكرة نالها بسنين طويلة من العطاء الفني والإنساني الذي لم يتوقف رغم كل ما مرّ به من ظروف قاسية خلال حياته، قسوة توقف حتى البراكين عن اندلاعها، والغيوم عن إسقاط حمولتها الندية، والنرجس عن فتح عينيه، لكن ابن “المريجات” نازل الحياة بندية أبطال الأساطير، كل العواصف التي حاولت أن تعصف بفنه والمدرسة الذي ينتمي إليها، عجزت عن ذلك، فلا السراويل المشققة، ولا إبر البوتكس، لا حروب “الفانزات” ولا مكر ثعالب الفن المستورد كطعام القطط، استطاعت أن تهز مطلع أغنية من أغانيه أو أن تعكر مزاج “أوفه” الحانية.
ليس خبرا مفاجئا يا صاحب القلب الطفل، لكنه محزن، فكلما انطفأ نيزك من نيازكنا التي نحب ونشير عليها بالبنان والقلوب، زاد قبح العالم، نم بسلام وسلم على الأحبة الذين يجهزون سهرة “صباحيّة” ودهرية، احتفالا بوصولك أخيرا إلى فردوس الأنقياء.
تمّام علي بركات