أزمة المنتج وخطورتها على المستهلك
المستهلك في أزمة غير معهودة بل وغير متوقعة، فمن هم في سبعينيات العمر اليوم يتذكرون النعيم المتتالي الذي عاشوه قبل عقود، يوم كانت أجزاء من الليرة تشتري بعض حاجاتهم الاستهلاكية اليومية، وآحاد منها تشتري بعض حاجاتهم المعمّرة من أدوات منزلية بسيطة وألبسة متواضعة، فأزمة المستهلك تتفاقم تتابعياً منذ سنوات، وتفاقمت أكثر خلال الأشهر الأخيرة، والخشية قائمة من استمرارية تفاقمها الأقرب إلى الحدوث، في ضوء الوقائع القائمة الآن، وهذا شيء خطير رتَّب ويرتب مآسي وهموماً، وشغل السلطات الرسمية التي جهدت باتجاه معالجات جزئية (توسيع نشاط السورية للتجارة وإحداث الأسواق الشعبية، وتقديم بعض المعونات المادية والعينية) خفّفت آنياً من وقع الأزمة، ولكنها لم ترق إلى المعالجة المجدية، فالانشغال منصبٌّ باتجاه معالجة النتيجة بعيداً عن الاتجاه في معالجة الأسباب، إذ يغيب عن بال الكثيرين، بمن فيهم بعض أصحاب القرار، أن أزمة المنتج القائمة والمتتابعة هي الأخطر، وهي التي أسّست وما زالت تؤسّس لأزمة المستهلك، فالمنتج هو الذي يؤمّن حاجة المستهلك، وأزمته التي يعيشها ستزيد من أزمة المستهلك، فأزمة المنتج تضعف من قدرته على الإنتاج نوعاً وكماً، ونقص الإنتاج قياساً بارتفاع حاجات الاستهلاك سيبقِي على حالات ارتفاع أسعار حاجيات المستهلك، وبتصاعد يتواكب مع ضعف إنتاج المنتج، والطامة الكبرى حال تزايد هذا الضعف، ما يوحي بأننا قد نشهد انعدام إنتاج بعض المنتجات، حينئذ ستتجاوز شكوى المستهلك غلاء المادة المطلوبة، وستكون شكواه الكبرى من عدم وجودها البتة!
الخطورة الأكبر تتمثّل باستمرارية ضعف الاستثمار الحكومي في ميادين الإنتاج السلعي، فالنسبة الأكبر من الميزانية العامة للدولة مخصّصة للإنفاق الاستهلاكي والخدمي، ونسبة الدخل الأسري المخصّصة للاستهلاك تتزايد على حساب الادخار، الذي لم يعد موجوداً لدى غالبية الأسر، بما في ذلك الادخار الذي كان يتمّ لمصلحة التحضير لبناء المسكن وتزويده بالمعدات المنزلية، حتى أصبح ذلك حلماً بعيد المنال، لدى مئات آلاف الشباب المقبلين على حياة أسرية مستقلة عن أسرهم، ورأس مال رجال الأعمال يزداد عزوفاً باتجاه الأعمال الخدمية والتجارية، واستيراد السلع من الخارج، بدلاً من الاستثمار في إنتاجها، ما يحمِّل المستهلك أسعاراً أعلى، ويكرّس ضعف الإنتاج المحلي، بل قد يعدم بعض مفرداته لاحقاً، نتيجة خروج بعض المنتجين من الميدان، هذا الخروج لم يعد خافياً على أحد، والمتمثل بخروج الكثير من المزارعين من ميدان الإنتاج في كافة المحافظات، وكذلك خروج الكثير من مربي الثروة الحيوانية ومربي الدواجن، والخطورة الأكبر تتجلّى بصعوبة عودة قسم كبير من هؤلاء المنتجين – وأمثالهم في قطاعات الإنتاج الأخرى – إلى الإنتاج، نظراً لميل قسم منهم باتجاه الأعمال الخدمية والتجارية الأقل عناء والأسرع دخلاً، ولضعف توفر مقومات الإنتاج مجدداً للراغبين في العودة، إذ لم يعد بمقدور الكثير منهم تغطية نفقات الزراعة من حراثة مأجورة مرتفعة القيمة وارتفاع قيمة السماد الكيماوي والبذور ومبيدات الأمراض الزراعية. والطامة الكبرى غالباً ما تتجلّى لاحقاً بمخاطر التسويق المتمثلة بانخفاض قيمة المنتج عن كلفته في كثير من الأحيان، أما في ميدان الثروة الحيوانية فلم يعد بمقدور الكثيرين شراء بقرة أصبح سعرها بالملايين بعد أن فقدها سابقاً –لسبب أو لآخر- يوم كان سعرها بالآلاف، ولم يعد بمقدور الكثير من مربي الدواجن تأمين نفقات تربية الفوج التي أصبحت بملايين الليرات بدلاً من آلافها السابقة، وكذا الحال بالنسبة لمشاريع الإنتاج السلعية الصناعية، التي لم يعد بمقدور الكثيرين تأسيسها لارتفاع كلفتها الكبيرة، وسيعاني أصحاب المشاريع المتوقفة من صعوبات في الإقلاع بها مجدداً.
الجميع يعلم، مسؤولين ومواطنين، بأهمية وضرورة العودة للإنتاج، ويؤكد على ذلك، ولكن التساؤل الكبير: أليست العودة للإنتاج تتطلّب توفر مقوماته، هذه المقومات التي يجب أن يكون العمل على توفيرها في الزمان والمكان المناسبين، وبالأسعار والتسهيلات المشجعة، هي الشغل الشاغل، بالتوازي مع الانشغال بتوفير السلع الاستهلاكية، ولا أرى حاجة قطعاً لإحداث أية مؤسسة أو مؤسسات جديدة معنية بذلك، لأن تفعيل دور المؤسسات القائمة /وزارة الزراعة وجميع الجهات الأخرى المعنية في الزراعة– ووزارة الصناعة والجهات الأخرى المعنية في الصناعة– والمصارف العامة والخاصة/ في ضوء المهام الموكلة لها ضمن أنظمتها الداخلية، وتكليفها بمهام جديدة تتطلبها المستجدات الميدانية، سيضمن توفير المزيد من مقومات الإنتاج، الذي يضمن توفير فرص الإنتاج التي تشكّل المدخل الأساس لتوفير حاجات الاستهلاك بأكبر كمية وأفضل نوعية وأنسب سعر.
يبدو أن هناك بعض الجهود التشريعية والتوجيهية والإجرائية بهذا الاتجاه، ولكن –وكالمعتاد- الكلام عنها أقل بكثير من فاعليتها، وستكون هذه الفاعلية أضعف، ما لم تكن الجهات الرسمية هي السباقة وصاحبة الدور الأساس في ذلك، ما يوجب حصول المزيد من المتابعات الميدانية للتأكد من تطبيق التوجهات النظرية.
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية