غالب هلسا.. كان يبحث عن مكان دافئ افتقده كل حياته
عاش الروائي غالب هلسا متنقلاً بين المدن المزدحمة بالحياة باحثاً في طرقاتها، وفي أمكنتها الداخلية عن دفء مفقود، فقد نفي من وطنه وهو في سن الثامنة عشرة من عمره، وأجبر على ترك العراق بعد أن لجأ إليه، وأبعد عن مصر بعد أن رفع صوته منتصراً لحرية الرأي، إنه يواجه السلطات بوحشة الاغتراب، إذ انشغل بالسياسة والثقافة والفكر، وكان يطمح إلى تحديث المجتمعات العربية وتطوير الرؤى النظرية، وأنجز في العمر الذي قضاه أعمالاً روائية وقصصية وفي النقد الأدبي والفلسفة والفكر والترجمة، والمقالات الكثيرة في السجال السياسي، جاعلاً من الأشكال المتعددة طرقاً مختلفة للنظر إلى الوجود الإنساني. ونجد في أعماله الروائية توتّراً من الفضاء الديني الصاخب المعقد الذي يضج بالحياة، والمكان الريفي البسيط الذي يرتبط بالحلم الفردوسي، وحضن الأم والشعور بالحماية الذي افتقده في حياته التي عاشها، فالمدينة تمثل له كياناً مهدّداً باعثاً على الرعب وعدم الاستقرار وافتقاد الطمأنينة، وهذا ما تفسره الأحلام التي يراها في نومه، وأحلام اليقظة التي تعيده إلى مسقط رأسه وفردوسه المفقود، وكان يكتب كلّ أحلامه الشعورية والتي ما تحت اللاشعور ليصبح الخيال والحلم جزءاً من كتاباته، والصراع بالنسبة إليه هو صراع بين الحياة والحياة، بين الكتابة وبين الحياة التي يعيشها الكاتب، وحين يختار الكاتب حياة الكتابة فإنه “يموت”، ويرى العالم بوصفه فضاء لهذا الصراع ومجالاً لمعرفة القوة التي يمكن أن يملكها الإنسان المتنوّر، ويعبّر فيها عن أفكاره ومجالاً لمعرفة الآخر بوصفه المحتل، إنّ عالمه الروائي واحد، متنوّع المناحي وعميق لكنه محدّد ومتواتر القسمات، فهو يدور أساساً حول شخصية الراوي الذي يخرج العالم الروائي منه، والشهوة الحسية في كتاباته ليست بهيجة ولا فرحة، ويستخدمها ليعبّر عن حالات الخذلان والفشل والسقوط، فظل غريباً عن المدينة، رغم أنه عاش جلّ حياته فيها، وظل الحنين إلى القرية يجذبه رغم قسوة الحياة التي عاشها.
غالب هلسا أديب أردني، وُلِدَ في ماعين قرب مادبا في 18 كانون الأول عام 1932، وتوفي في اليوم ذاته من عام 1989، ودفن في دمشق عن سبعة وخمسين عاماً، عاش في الأردن وتعلّم فيه، فقد درس في مدرسة الاتحاد الإنجيلية الأميركية في مدينة مادبا، انتقل بعدها إلى عمان وتعلّم في مدرسة المطران، حيث برزت قابليته للمجادلة والنقاش، بدأ الكتابة وعمره أربعة عشر عاماً، وغادر عمان إلى بيروت، حيث سجل في الجامعة الأميركية لكنه أجبر على قطع إقامته في لبنان، وعاد إلى وطنه ثم غادره إلى بغداد فالقاهرة، حيث أنهى دراسته للصحافة في الجامعة الأميركية.
عمل في مجلة الأقلام العراقية، وفي وكالة الصين الجديدة، ثم في وكالة ألمانيا الديمقراطية، واهتم بالآداب الأجنبية، واعتنى بالشعر العربي قديمه وحديثه، وهو يقدر الفلسفة الإسلامية ودورها، ملخصاً بقوله: “اكتشفت أنها أكثر الفلسفات تعبيراً عن صراع اجتماعي وسياسي”.
القاهرة كانت الفترة الأطول، والأكثر تأثيراً في التجربة الإبداعية والتكوين الثقافي، وكذلك في الموضوعات التي شكلت محور انشغالاته الأدبية والفلسفية والسياسية، وظل يتحرك في الفضاء المصري (السياسي والاجتماعي) للقاهرة في الستينيات والسبعينيات، فهو يكتب عنها، ويبني من أحيائها الشعبية، وشخوصها المهمشين، ومن نقاشات اليسار المصري وثقافاته، وانشقاقات عالمه السردي، فقد مزج ذلك بتذكارات شخصية، بحيث أخذ مكان الراوي اسم الشخصيات الرئيسية، وأبعد عن مصر زمن أنور السادات عام 1978. لقد أثر في جيل الروائيين والقصاصين والشعراء الذين تابعوه، بشخصه وبأعماله فيما سمي بجيل الستينيات، ورواياته التي كتبها في مصر، كان معنياً بتشريح العلاقات الاجتماعية والأبعاد السياسية والثقافية وإسقاطاتها النفسية، وتشتبك عنده رمزية الجنس مع رمزية السياسي وفضاء الإيهام السردي مع فضاء الواقع، ورحل إلى بغداد وكتب فيها “ثلاثة وجوه لبغداد” ولامس فيها أوجه التحولات التي حصلت في المدينة عبر قراءة العمران الاجتماعي، وفكرة الاغتراب والتخييل السردي العنيف.
لقد كان يقول دائماً: “الحرّ الوحيد في هذا الكون هو الإنسان الذي تتفجر طاقاته الكامنة بالقوة المكتسبة التي أخفاها في وعيه، وهذا الوعي سوف ينطلق إلى التحكيم بالحياة، إلى إخضاع مسار العملية الاجتماعية للعقل”. وقد كتب في هذه الفترة نصوصاً تجمع بين التحقيق الصحفي والقصة والنقد، وغادر بغداد بعد ثلاث سنوات إلى بيروت وأقام فيها إلى أن اجتاحتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في عام 1982، فحمل السلاح وظل في الخندق الأمامي يقاتل إلى اللحظة التي خرج فيها المقاتلون من بيروت على ظهر البواخر إلى عدن، ومنها إلى أثيوبيا ثم إلى برلين وأخيراً إلى دمشق.. غادر غالب هلسا مع الذين غادروا بيروت حاملاً معه ذكريات الأمكنة الدافئة، وقتاله على الجبهة المشتعلة.
كتب “الروائيون” في عام 1988، وفيها ينتحر بطله مأزوماً ومعتزلاً العالم وشاعراً بالخراب الذي يسكن التاريخ، وعاش رهاب العزلة من المدينة والناس، وضغطت عليه حياته، فقرر أن ينهيها كما يحلو له، فإذا كان لم يأت بقرار إلى الحياة، فلينهيها بقرار صادر عنه، وتمّ الأمر.
في رواية “سلطانة” يستعيد غالب هلسا ذكريات الطفولة البعيدة، وهو يعيد تتبع خطا بطله في طفولته وصباه، إنها تأمل لحياته عندما كان صغيراً وهو يفتقد إلى العالم الفردوسي..” ففي داخل القرية إن لم تنتم إلى عصبية قبلية أو عشيرة من عصبياتها، تدرك منذ البداية، وقد يخفى عليك سنينا طويلة ثم يظهر فجأة، بل إنك في بحثك اللاواعي عن الهوية تشعر أنّ ارتباطك بالقرية أعمق من الآخرين، إنك تجد انتماءك كلّ لحظة، وتؤكده حتى لا تفقد هويتك، حتى لا تكون غريباً”.
كان يزداد حنينه إلى فضاءات الطفولة، وتشتعل رغبته في استعاد أمكنتها، تضاعف أحلام يقظته إلى المكان الأوّل الذي هو مكان أمومي، تستدعي استعادته “الأمّ” دائماً، وقد كان يقول: “إنّ كلّ امرأة بالنسبة لي هي صورة أمّي”.
كتب مجموعتين قصصيتين، هما: “وديع والقديسة ميلادة” وكتب “زنوج وبدو وفلاحون” وفيها يصور العلاقات الاجتماعية التي تربط البدو بأهالي القرى وتقيم تراتبية معقدة بين المكونات السياسية والاجتماعية والديمقراطية للأردن الحديث.
توقف قلبه في دمشق، ومات بأزمة قلبية، لقد عاش في لبنان ومصر والعراق وسورية بالإضافة إلى الأردن التي غادرها للدراسة وهو ابن ثمانية عشر عاماً، بالإضافة إلى المنافي التي كانت محمولة في قلبه وفي أعماله الروائية والقصصية.
فيصل خرتش