الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

صباح الخير!!

د. نهلة عيسى 

محاصرون نحن بالكفاف، وكورونا، وحر كافر فاجر، ووجع متكدس في حنايا الروح والجسد. فجأة يرن هاتفك، أو يوطوط “الواتسآب” لك برسالة، أو ربما يقتحم موقع دردشتك على “الفيسبوك”، صديق ممن غادروا البلاد في السنوات الأخيرة، وغابت عنك أخبارهم وأحوالهم، ثم في لحظة وقوف على الطلل، وربما من الملل، يباغتك بسلام متوجس، هو أقرب إلى جس النبض منه إلى التحية والسلام! فترد السلام وتسأل عن الصحة والحال، فيخبرك ببرود شديد أنه “على ما يرام”، وإذا عاكسك الحظ ورددت على واحد من أسئلته المرتابة بأنك مشتاق، فقد مرت فوق رأسك شظايا الكلمات، عن “صعوبة العيش التي اضطرته إلى الهجرة”، فتبالغ في الحماقة، وتخبره تفهمك، فيشتد قصف الكلمات، وترتفع سخونة العبارات وكأنك لدغته، فيحدثك بأن “الخوف لم يكن سبباً” في مغادرته، فيستمر نزيف حماقتك، وترد أن “لا عيب في الخوف فنحن مجرد لحم ودم”، فيتابع كلامه المُزرق المُزرد عن “الوطن الذي انقسم ولم يعد يستوعبه أو يحتويه”، فتزداد حماقتك رعونة، بالقول إن “الانقسام إن كان حاصلاً، فهو بين البشر، وبسبب البشر!؟”، فترتعد كلماته وتتدافع حروفه عن أن لا أحد استمع إليه حين وقعت الواقعة، فتتساءل بسذاجة مُستغربة، وأنت العارف بمحدودية علمه وخبرته، وربما عمره واهتمامه بالشأن العام وقضاياه: “وبماذا أشرت ولم تلب!؟”، فتحاصرك المدافع الكلامية المعتادة، المجترة، عن الفساد والفاسدين، والناس الذين انقلبوا وتغيروا، وتبدلت أحوالهم، وفلان الذي أصبح مليارديراً بعد أن كان غفيراً، وعلان، غير المستحق، الذي بات مديراً، وفلانة التي غادرت القاع لتغدو فوق الرقاب، و.. و .. إلخ!

حينها تصل حماقتك إلى ذروتها، فتقول له: مادمت موجوعاً ملتاعاً إلى هذا الحد، حسناً فعلت بالخروج! فيهاجمك كالملسوع، صاحب الثأر: أنا أجبرت على الخروج، أنا أحب وطني، أنا لم أستطع البقاء بين هذا وذاك، أنا، وأنا، وأنا!!! عند ذلك، تغادر الحماقة إلى السأم والضجر من التبرير بلا سؤال، فترد لتنهي السجال: “معك حق، والمهم أنك بخير، ولست محتاجاً لأن تقدم لأحد أعذاراً!”.

فيجن جنون صديقك، ويتعامل مع مواساتك وتعاطفك على أنهما فوقية وربما اتهام، فيرغي ويزبد، ويفأفئ، ويبدأ بمبارزتك دون أن ترفع عليه سيفاً: “وهل أنت سعيد؟ وهل ستبقى لو أتيح لك سفر؟ أم أنك مستفيد؟”، فينالك من عدوى جنونه جنون، وتجيب: “مؤكد لست سعيداً، ومؤكد أيضاً أنني كما خرجت أنت، أستطيع الخروج، والأكيد الأكيد أنني لست مستفيداً، لأن لا أحد سوى “إسرائيل” والفاسدين، مما يجري.. مستفيد، ولكنني لن أغادر، وأنا وهذا الوطن صنوان، نعيش معاً أو أموت دونه”، فيقفل صديقك – إذا حسن حظك – باب السؤال، لأن جوابك لم يرقه، فقد كان ينتظر منك جواباً يعزز قناعاته بأن مغادرته حلم، وأن الباقين منا في الوطن باقون للاضطرار، فيلقي تحية الوداع عليك باقتضاب، وتكاد – لولا أن الفيسبوك بلا باب – تسمع صفقة الباب، ثم بعد ثوان تصبح من صفحته وهواتفه وحياته محظوراً، فتحمد الرب أنه لا يمون على الرقاب!؟

هذا ملخص عاجل وطبق الأصل، لمحادثات أجراها كثيرون منا (على كره!) مع أهل وأحباب وأصدقاء غادروا الوطن في محنته، لأسباب عديدة تخصهم وتعنيهم، ولا أظن أن أحداً – سوى قلة من الغاضبين المحبين – عاتبهم، أو جرمهم، أو عاب عليهم رحيلهم، ففي النهاية لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكن رغبة البعض من هؤلاء بإيجاد حجة للرحيل تشعرهم بالتفوق على أمثالنا البائسين الصابرين، وتدفعهم لمهاجمتنا، ربما لأن صبرنا – دون قصد منا – بات مثيراً للاستغراب!؟ وليتهم يعفوننا من هذه الحوارات السقيمة، وليتهم أيضاً يعرفون أننا نعذرهم.. حقاً نعذرهم، ولكننا لن نعتذر منهم، لأنهم رحلوا وبقينا، فقد بقينا لأنه كان لزاماً أن يبقى أحد ليقول للوطن: صباح الخير، تصبح على خير، كل عام وأنت بخير!