كرسيّ سليمان
د. نضال الصالح
في كتاب النويري “نهاية الأرب في فنون الأدب” أنّ النبيّ سليمان أمرَ جنّياً بأن يصنع له كرسياً بديعاً مهولاً، بتعبير النويري نفسه، بحيث إذا رآه مُبطلٌ أو شاهدُ زور ارتدعَ وتهيّب. وفي كتاب سعد زغلول الكواكبي عن جدّه عبد الرحمن الكواكبيّ أنّ حلب عرفت في نهاية القرن التاسع عشر إلى وقت متأخر نسبياً من القرن العشرين ما كان يُعرف بـ “شهود المصطبة”، كناية عن شهود الزور الذين كانوا يتخذون من المصطبة المجاورة للمحكمة الشرعية في حلب مكاناً لتجمّعهم بانتظار مَن يحتاجهم من المتخاصمين للإدلاء بشهادة حسب الطلب مقابل مبلغ يتمّ الاتفاق عليه قبل الشهادة، وأنّ الكواكبيّ عندما تسلّمَ نيابة المحكمة كان من أهمّ إنجازاته، بعد تنظيمه ديوانها، ضربُه بيد من حديد على أيدي أولئك، فثارت ثائرتهم، ورفعوا شكوى ضدّه إلى الباب العالي، لأنّه، حسب شكواهم، قطع أرزاقهم، فسارعَ السلطان العثمانيّ إلى الاستجابة لهم، وأصدر أمراً بعزل الكواكبيّ.
وممّا كان الراغب الأصفهانيّ ذكره في كتابه: “محاضراتُ الأدباء ومحاورةُ الشعراء والبلغاء”، أنّ سهل بن دارم قال إنّه كان بالبصرة شيوخٌ يشهدون بالزور، وشرطُ بعضهم درهمٌ، وآخرون يشهدون وشرطهم أربعةٌ، وآخرون شرطهم عشرون درهماً، فسألتُ عن ذلك فقال: أصحاب الدرهم يشهدون ولا يحلفون، وأصحاب الأربعة يشهدون ويحلفون، وأما أصحاب العشرين فيشهدون ولا يحلفون ويبهتون. وممّا ذكره أيضاً في كتابه نفسه أنّ في تاريخ العرب ما يُعرَفُ، بالإضافة إلى أولئك، بشهود الأكْلَة، أي الذين يشهدون شهادة زور لطعام أطعِمُوه!!
ليس شهود المصطبة، ومن قبلُ مَن ذكرَ الأصفهانيّ، بوصفهم ظاهرةً، استثناءاتٍ في التاريخ، كما أنّهم، بوصفهم ظاهرة أيضاً، ليسوا وقفاً على مجتمع من دون آخر، أو على عصر من دون آخر، وعلى نحوٍ يمكن عدُّ الظاهرة معه مشترَكاً بين مختلف المجتمعات والأمم والشعوب والأزمان، كما هي مشترَكٌ بين غير مجال من مجالات الحياة.
غير أنّ الظاهرة إذا كانت شبه قاعدة، أو تكاد تكون قاعدة، في أيّ شأنٍ، فإنّ حضورها، قاعدةً لا استثناء، وسرّاً وجهراً، في الشأن الثقافيّ يتجاوز كونها ظاهرة تستبيحُ قيمَ الحقّ والخير والجمال في الحياة عامّة، لا الثقافة وحدها، لتتجلّى بوصفها نشازاً، بل النشاز في أقسى تعبيراته عن حال الخراب التي انتهت إليها تلك القيم، لا لأنّ الثقافةَ، في أحد تعريفاتها، فعلُ تمجيدٍ للحقيقة والقيم فحسب، بل أيضاً، لأنّها تستهدفُ، فيما تستهدفه، بناء الوعي الخالق للإنسانيّ في الإنسان، وفي تحرير الإنسان نفسه من أغلال الزيف والتزييف، والجهل والتجهيل، والتبعية والاستتباع، وقبلَ ذلك وبعده في دفع الأشياء إلى الوقوف على أقدامها بدلاً من وقوفها على رؤوسها كما يشاء لها المزيِّفون، والمجهِّلون، والمستتبِعون.
لقد كابدتِ الحياةُ الثقافيةُ العربية، ولا تزال، الكثيرَ من اختلاطات التحاسد، والتباغض، والتعالم، والهمز، واللمز، والغمز، والتحريف، والتكسّب، والتزلّف، وإلى حدّ أصبح من الضرورة معه صناعة كرسيّ كذلك الذي صنعه الجنّي لسليمان، ما إنْ يراه مبطلٌ أو شاهد زور، حتى يتهيّب، أو لعلّه يتهيّب.