قراءة في رواية “شوكة في الحلق”
للوهلة الأولى يتبادر للذهن أن عنوان الرواية يتصل بتلك الواخزة التي ترافق أنواع عدة مختلفة من النباتات، وما أكثرها تلك الزاهيات اخضرارا تتحول في النهاية إلى أشواك تدمي اليدين أو تجرح القدمين، لكنها هنا تقف في الحلق لتبقى مصدر ألم ووجع وقلق، ولأن الرواية هي فن رسم الشخصيات بالكلمات فإن من اختارهم نصر محسن لينقلوا منتجه الإبداعي ويغدو رواية من حق الجمهور فتحوا هذا الفن على احتمالات عدة، ولكن يمكن الجزم أن معظم شخصيات الرواية الرئيسة كسلفادور العربي (بشير عبدالله) ومنصف بوعمّة مثال لنجاح الكاتب في مبتغاه. أما بقية الشخصيات فلم تكن ثانوية أبدا بل ترافقت مع سلفادور على نحو مقنع وإن لم يكن بالضرورة أنها رئيسة، لكنها دأبت على التواجد لرموز أكثر منها شخصيات حقيقية بذاتها، ولاسيما تلك التي اغتنت بعد فقر، أو نالت من تجارة ممنوعة ما أهلها لأن تدخل عالم الأشباح.
أول ما استوقفني في هذه الرواية أن يعمد الكاتب إلى اختيار فنان تشكيلي بطلا لروايته، مع أن هذه البطولة تكررت في كثير من الروايات التي صدرت بعد “أيام معه” و”تلك الأيام” لـ كوليت خوري والتي أزعم أنها لم تكن أول من أوكل للفنان التشكيلي هذا الدور بدلا من الصفة الحقيقية للبطل أي الأديب أو الشاعر، مع ذلك لا بد من الاعتراف بأن نصر في هذه الرواية تمثل شخصية الرسام وسلوكه وامتلك ثقافته الفنية إلى حد كبير، فيما لم يفلح كثيرون في تمثل كل ذلك خلال اختيارهم للرسام، وهذا موضوع يستحق وقفة موضوعية، مثلما تستحق مغادرة سلفادور المعرض الذي شارك فيه بلوحته (شوكة في الحلق) وقفة تحليلية تقدم ما في نفس الأديب من أغراض دفعته لإبداع هذه الشوكة وجعلها في حلق العدو تارة، مخلدا بطولات المقاومة في الجنوب ومؤكدا النصر الذي انتزعته الدماء الطاهرة. وفي الوقت ذاته ترك الباب مواربا ولم يحسم نهائيا خياره فقد جعل القارئ يرى أن ما فعلته ميساء النوري هو الشوكة في الحلق، ومن يرى ذلك لا ينأى كثيرا عن الصواب وربما يكون على حق في ذلك بدليل أن رؤيته لميساء ولقاءه بها بدل كثيرا من عواطفه وفجر موقفا لم نكن نتوقعه وهو التخلي عن اللوحة التي فازت والعودة إلى التلة الشرقية، ليقبل بأن تقوم أمه في إتمام زواجه من أي فتاة من تلك التلة كما تزوج كثيرون زواجا تقليديا لا يحمل الحب الجارف الذي عاشه الفنان مع ميساء وكانت ملهمته، أو الصحفية التي لم تتغلغل في روحه. وللتدليل على ذلك أكثر لابد من التذكير بأن سلفادور لم يمنح ميساء كلمة طلاق التي طلبتها، وهي أي هذه الكلمة ربما ظلت الشوكة في حلقه.
في وجه آخر لقراءة الرواية، نرى جغرافيتها منسجمة مع تلك المرحلة أي العقد الأول من الألفية الثالثة وصلة البحر بدمشق بالجنوب قبل العدوان الغاشم وبعده، وكذلك صلة المغاربة العرب بالشام وتجوالهم في المشرق ولاسيما لبنان وسورية والعراق، وهذه مكرمة للرواية في أنها أضاءت على المقاومة العراقية التي تصدت للاحتلال الأميركي واندفاع منصف بوعمة وانخراطه في تلك المقاومة.
أمر آخر لافت للانتباه في الرواية هو شخصية الأستاذ عارف التي حاول الكاتب أن يجعلنا نتطلع إلى معرفتها ودورها في حياته، لكنه لم يقدم لنا ما يساعدنا على ذلك سوى غياب هذه الشخصية ورمزيتها من خلال زنزانة افتراضية كان سيلفادور يدخلها ليبقي على ذكرى أستاذه أو ليعلن رفضه لاعتقالهم ولم يحطم تلك الزنزانة الافتراضية إلا بعد ظهور عارف في اسبانيا، ثم في الجنوب يسير على عكازته ورهانه على مشاركة سيلفادور في المعرض لكن سيلفادر تمرد على ذلك الماضي وعاد ولكن إلى أين؟
سؤال طرحه الكاتب نفسه وترك لنا الجواب لأراه بأنه عاد إلى التلة الشرقية ليست لأنها مسقط رأسه كما يتبادر إلى الذهن بل أجزم أنه لم يفكر في ذلك، بل برمزية المكان أي إلى الريف إلى النقاء والله أعلم ما في نفس يعقوب أقصد نصر محسن الروائي الذي أضاف الكثير للأدب العربي ولفن الرواية وعوالمهما من قبل ومن بعد فهو كاتب يعرف ما يريد ينأى بنفسه عن الثرثرة، وكل مفردة لديه جزء من عمارة قائمة.
رياض طبرة