العالم على مفترق طرق
“العالم على مفترق طرق” عنوان مقال لـ اليستر كروك، الضابط السابق في الاستخبارات البريطانية يتحدث فيه عن الحال التي وصلت إليها البشرية في هذه الآونة جراء تفشي جائحة كورونا، وتداعياتها الاقتصادية والصحية الخطيرة التي لم يسبق لها مثيل، واستغلال البعض لهذا الوباء لتهميش العنصر البشري، وتعويم الثورة الرقمية، إضافةً إلى تنافس مسارين هما مسار ترامب ومسار العولمة.
يقول في البداية: يشعر الكثيرون اليوم بالفراغ والإحساس بالتغيير الوشيك، حيث جعلنا الفيروس التاجي ندرك العيوب التي تظهر في جميع جوانب مجتمعاتنا. يتملكنا شعور بأن فترة ما بعد الحرب، وربما حتى عصر التنوير في أوروبا، قد انتهت، وأنها فشلت بطريقة ما. ومع ذلك، يرغب البعض بشغف في إطالة الحاضر المألوف للحفاظ على القيم التأسيسية للولايات المتحدة، فيما يبدو آخرون كثيرون مستاءين ويريدون تغيير الحاضر بشكل جذري بل والقضاء عليه. ما هو واضح بالفعل أنه لا يمكن أن تكون هناك “عودة إلى الوضع الطبيعي”، فهناك مقترحات متفجرة على الطاولة، إما طوباوية تكنولوجية مادية (أي “إعادة التوطين الكبرى”) أو قادمة من المستيقظين من أجل التمرّد الثقافي الصاعد بهدف قلب العالم رأساً على عقب. فيما يبدو آخرون أكثر استعداداً لحمل السلاح على الأقل في الولايات المتحدة للحفاظ على فضائل وهوية “العصر الذهبي” لترامب.
واليوم، تحاول بعض النخب الغربية كبح جماح سلسلة “الفوضى” المنبثقة عن السخط الشعبي والانهيار الهيكلي جراء خشيتها من أن تعمل هذه الاضطرابات على تزكية وتغذية الشعبوية والمشاعر القومية، وبالتالي تهدّد استدامة “أسطورتها” المركزية.
يتابع الكاتب: إنهم يرون الخطر، في إشارة إلى النخب الغربية، ويمكنهم ملاحظة أن القيم “الأخرى” التي تعارض العالمية جاءت من طبقات عميقة من الخبرة والتاريخ الإنساني، لذلك ترفضهم المؤسسة صراحةً واصفة إياهم بـ”الشعبوية”، ولكن في خضم الشعبوية، نشهد أيضاً قيماً قديمة وأبدية.
حقيقةً، لن يعرف معظم “المتذمرين” اليوم تاريخ القيم التي يعتنقونها وقد لا يهتمون أبداً بالجوانب العميقة من الفكر الذي يعيشون فيه، ما يجعل اختيار الطريق الذي يجب أن نسلكه مصدر هذا التوتر، خاصةً وأنه يتمّ إخبارنا دائماً أن هذين المسارين مختلفان جذرياً حتى عندما يكونان في حالة حرب مع بعضهما، بينما في الواقع يشتركان في بعض الخصائص الأساسية ولديهما الهدف نفسه. وعليه، فإن كلا المسارين راسخان في توافق تمّ التعبير عنه بوضوح شديد من قبل المنتدى الاقتصادي العالمي، والذي وصفه رئيس “دافوس” كلاوس شواب بالثورة الصناعية الرابعة.
في الثورة الأولى، التي بدأت في القرن الثامن عشر، استخدمت طاقة الماء والبخار لمكننة الإنتاج، بينما حدثت الثانية بين القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى مع تقدم نحو الطاقة الكهربائية لخلق الإنتاج الضخم للسلع. أما الثورة الثالثة، فقد استخدمت الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات لبدء التشغيل الآلي للإنتاج، فيما تسعى الثورة الرابعة للبناء على الثالثة تحت مسمّى “الثورة الرقمية”.
يصف “كلاوس شواب” هذه الثورة بأنها “مزيج من التقنيات” التي تشمل المجالات الفيزيائية والرقمية والبيولوجية، وستكون الاختراقات التكنولوجية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والسيارات المستقلة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وتخزين الطاقة والحوسبة “الكمومية”.
ووفقاً لـ شواب، يمكن للعالم أن يتوقع أن تكون الثورة تكافلاً بين الكائنات الدقيقة والجسم البشري والمنتجات التي يستهلكها البشر والمباني التي نعيش فيها، لذا فإن “المستقبل” البشري مدعو للتلاقي مع العالمين الرقمي والبيولوجي وأن يكون جزءاً منها، وهذه “خدعة” خطيرة للغاية لكونها محاولة لطمس الخط الفاصل بين الروبوت والإنسان، تماماً مثلما أصبح الفصل بين الذكر والأنثى معتماً.
إذا كانت الثورة الرابعة تتمتع بقبول معيّن داخل النخب الغربية (بما في ذلك ضمن فريق ترامب)، فإن ما يفصلها عن أنصار العولمة الحقيقيين هو الإضافات، مثلاً في عام 2014 دعت كريستين لاغارد رئيسة صندوق النقد الدولي إلى “إعادة ضبط” السياسة النقدية في مواجهة “الفقاعات التي تتطوّر هنا وهناك”، والبيئة التنظيمية للقطاع المالي والإصلاحات الهيكلية للاقتصادات العالمية للتعامل مع ركود النمو والبطالة. وفي العام التالي، حدّدت الأمم المتحدة جدول أعمال 2030 واتفاقية باريس للمناخ. وفي عام 2016 كشف المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) عن قصة الثورة الرابعة بإنشاء منصات خبراء للنهوض بالمشروع، ومن ثم في حزيران من هذا العام، أطلق مرفق البيئة العالمية عملية إعادة الضبط الكبرى. باختصار، تمّ بناء “بيت النظام العالمي الجديد” من الأسفل إلى الأعلى مما أدى إلى تآكله قطعة تلو الأخرى!.
يضيف الكاتب: مع ارتفاع معدل البطالة العالمية بسبب إجراءات الحجر لمواجهة الفيروس التاجي، ومع وجود الولايات المتحدة في خضم “ثورة ثقافية”، انتهز أنصار العولمة الفرصة لنشر تكنولوجيا الثورة الرقمية والتغييرات المناخية والنقدية، في سياق عملية “إعادة الضبط الكبرى”، حتى صفقة صندوق التحفيز الأوروبي لمواجهة الفيروس التي تمّ التوصل إليها هي جزء من حزمة التحفيز والإنعاش، هذا الصندوق هو تغيير عميق في هيكل وطبيعة المشروع الأوروبي. وللمرة الأولى، ستتمتّع اللجنة بالقدرة على جمع أموال كبيرة في أسواق رأس المال وتوجيه تخصيص الإنفاق، وتحويل هذا المخلوق الهجين الغريب إلى مؤسسة أكثر استثنائية.
يتابع شواب: ولكن بالاتفاق التام مع فكر دافوس، لن يكون أمام الشركات أي خيار سوى التكيف. يجب على الحكومات أيضاً أن تتحوّل، بينما يمكنها اكتساب قوى تكنولوجية جديدة “لزيادة سيطرتها على السكان” (في شكل أنظمة مراقبة ومراقبة للبنية التحتية الرقمية)، وسيتعين عليها أيضاً مواكبة التغيير التكنولوجي، وبالتالي سينقلب كل شيء رأساً على عقب، ما سيؤول إلى توترات اجتماعية هائلة.
ووفقاً لـ شواب، فإن الثورة الرقمية ستؤدي إلى معجزة في جانب العرض، مع الكفاءة على المدى الطويل ومكاسب الإنتاجية للشركات، وسوف تنخفض تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، ولكن الذين سيظلون بلا شك هم أولئك “المنتخبون” الجدد الذين سيديرون العالم بأدواتهم الرقمية وذكائهم الاصطناعي.
هنا يتساءل شواب: ولكن ماذا ستفعل أوروبا أو الولايات المتحدة بـ 20٪ أو 40٪ من القوى العاملة التي لن تكون هناك حاجة إليها (أو التي ستثبت أنها غير كافية من الناحية التكنولوجية) في هذا العالم الآلي الجديد؟ ليجيب على الفور بأنه لا توجد مشكلة، حيث سيستفيد العمال المسرحون من “شبكة أمانهم” الدخل الأساسي العالمي.
هنا يتابع الكاتب: أولئك الذين يساعدون في تمزيق الثقافة الأمريكية يعملون في الوقت نفسه على تعزيز مشروع مركزية الاتحاد الأوروبي، إذ يعتقدون أنه يجب في نهاية المطاف قمع ثورة الصحوة من خلال الائتمان الاجتماعي على نطاق واسع ومراقبة العملة الرقمية.
الجيل الأصغر من الصحوة مستعد لإلغاء الهوية الثقافية للولايات المتحدة كما يتصوّرون، وكما تنبأ كريستوفر لاش في كتابه “ثورة النخب” إن هؤلاء الشباب -20 أو 30 عاماً- لديهم رؤية قاتمة للثقافة الأمريكية على أنها أمة متخلّفة من الناحية التكنولوجية، رجعية سياسياً، قمعية في أخلاقها، من الصعب إرضاؤها، مملة وفاسدة. فلماذا إذن يسمح المانحون الكبار والشركات الأمريكية الكبرى بحركة تتجاهل المبادئ التأسيسية الأمريكية؟..
ببساطة، الاتحاد الأوروبي هو الوسيلة المثالية لبناء الأوليغارشية الأرستقراطية الجديدة للثورة الرقمية، إذ كان مثل هذا البناء دائماً كامناً في مشروع الاتحاد الأوروبي، في حين أن هذه ليست هي الحال بالنسبة للولايات المتحدة.
ترامب وأعضاء آخرون من النخب الأمريكية، وبشكل خاص الجيش، يقرّون بأن الثورة الرابعة هي “مغير اللعبة” العالمي، لكن، محكوم عليهم بالسماح للأولوية الأمريكية بالهروب من أوروبا. يمكن للولايات المتحدة القيام بأحد أمرين: أن تحاول المضي قدماً والتفوق على الصين بشأن الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، أو العمل بالتعاون معها. لكن يبدو أن ترامب يريد أن تتفوق الولايات المتحدة على الصين وأن تقدم هذا الهدف كمنصة انتخابية في تشرين الثاني!.
إعداد: هيفاء علي