النبل.. الناجي!
حسن حميد
ليس من شيم أهل الأدب والإبداع أن ينقلب بعضهم على بعضهم الآخر سواء أكانوا أبناء جيل أدبي واحد، أو كانوا أهل معاصرة، أو أن تاليهم يلحق بسابقهم، فنسمع الكلام الضرير يحيط بتجاربهم ونصوصهم، وتحفّهم التقولات الناقصة، وبعض هؤلاء المتكلمين على غيرهم لم يعرفوا بالعرامة الأدبية، والجمالية الإبداعية، وأن من ينتقدونهم كانوا نجوماً ذات حضرة ونورانية واشتقاق، والشواهد نصوصهم التي ما زالت حتى هذه الساعة شارقة بما فيها من جمال وتعب وتشوفات!
شكسبير الأديب الإنكليزي عَرف في حياته، وبعد رحيله كلاماً ثقيلاً قاله أدباء ونقاد لا يليق بالأدب والثقافة ليس لأنه يسيء إلى شكسبير الإنسان والأديب، وإنما لأنه كلام تقولات وظنّة ليس إلا، ومع أن هذا الكلام الثقيل الأسود بات رجوماً من حجارة إلا أن شكسبير ظلَّ شكسبيراً في القيمة والمكانة والأبوة الأدبية لأن نصوصه أحجار كريمة وأزيد.
وبوشكين الروسي، قيل بحقه الكثير من الكلام الظلامي بقصد تدميره، وإماتة روحه الإبداعية في آن معاً، قيل إنه متهور، وغضوب، ونُصوصه لن تعرف المكث والبقاء، وإن ما كتبه مشدود إلى أمكنة وأزمنة، والأمكنة والأزمنة تتحول وتتغير، وهذا ما سيجعل نصوصه معلقة في الهواء فلا أمكنة تسندها ولا أزمنة تنشدّ إليها وتتبناها، وحين رحل مبكراً لم يتوار حضوره، ولم تتلاش نورانية نصوصه، لا بل ظلَّ، وسيبقى، سيد الأدب الروسي ورائده وشقّاق دروبه الصاعدات نحو المجد.
وبابلو نيرودا شاعر تشيلي اتُهم بأمور كثيرة تكاد تكون لعنات أبدية، فقد قيل إن علاقاته تضيء نصوصه، وأن معارفه يجمّلون ما يكتب، وأن فكره الحزبي حمله إلى أمكنة عالية، وأن موهبته متواضعة، وأن عمله السياسي أضاء نصوصه، وأن النساء الجميلات لعبن أدواراً مهمة في إعلاء شأنه.. ومع كل هذا ظل نيرودا أشهر شاعر عرفته أمريكا اللاتينية، وأهم صوت شعري حتى الآن، أي بعد أن تفككت البنية التي كانت تحيط به، وبعد أن ذهبت طيوف الأحزاب، والنساء، والعلاقات، وكل أشكال المناصرة!
والمتنبي، قيل عنه الكثير من الكلام الذي لا يُسمى كلاماً، ووصّف بأوصاف لا تليق بالإنسان، فكيف بالشاعر والمبدع، وقيل إن سيف الدولة ناصره وحماه وأيّده دون غيره، فقدمه وأخّر غيره، ولكن الآن، وقد مرت ألف سنة بحمولتها الشعرية النيرة، ظلَّ المتنبي الشاعر صاحب القصيد النايف، وتوارى كل شيء من الأذيات والمقذوفات التي لحقت به وبشعره!
قلت هذا لأن هذه الحروب الرجيمة بين أهل الأدب، والاستقواء بالتزييف، والتلوين، والادعاء، والخداع أدّت إلى نتائج وخيمة، لأن أصعب ما يشعر به الأديب الحق، وأهم ما يحفر في ذاته الشفيفة هو هذه الآثار الحارقة لهذه الحروب الشانئة، لأنها تأخذه إلى عزلة قاتلة، ولأهل الثقافة والأدب اليوم، وقد مرَّ من تحت قنطرة الحياة الكثير من الأزمنة، أن يتبصروا ويسألوا لماذا غادر أدباء كثرة الحياة سريعاً مثل بوشكين، وليرمنتوف وغوغول ومايكوفسكي في روسيا، ومثل ستيفان تسيفايج وهايني في ألمانيا، وفي بلادنا، مثل السياب، وأبو القاسم الشابي، وصلاح عبد الصبور، وغسان كنفاني، وتيسير سبول، ونجيب سرور، وأمل دنقل، وجورج سالم، وعبد الله عبد.. الخ.
إن الحياة الأدبية، لأنها حياة أدبية، لا يليق بها سوى النبل، لأن النصوص الجميلة لا توصيف لها سوى أنها دارة النبل التي يعيش فيها نبلاء مسّتهم يد السماء بنورانيتها المذهلة، والقسوة على الآخر قد تصيبه بالأذى، وقد تضطره إلى الانحناء، لكن نبله ناجٍ على الدوام!
Hasanhamid55@yahoo.com