“بيت الشغف”.. دون مجاملات!!
في محاولةٍ لاستعادة رائعة الكاتب الأمريكي يوجين أونيل “رغبة تحت شجرة الدردار”، قدم المخرج هشام كفارنة مع فرقة المسرح القومي بدمشق عرضا مسرحيا تحت عنوان “بيت الشغف” تناول فكرة النص الأصلي الذي كتبه أونيل عام 1924 عن طبيعة الأسرة الأمريكية وما تعانيه من تفككٍ وتهالكٍ واضحين، بالإضافة إلى توصيف النظام الإقطاعي الأمريكي آنذاك.
تدور أحداث المسرحية الأصلية حول السيد أفرايم كابوت، وهو رجل عجوز يخاف من الموت كي لا تذهب ثروته ومزارعه وأبقاره ميراثاً لولديه بيتر وسيمون، فهو الذي عمل في مقاطعة نيو إنغلندا طوال عمره وآثر العمل على الذهاب بحثاً عن “كنوز سليمان” في كاليفورنيا المعروفة بـ “أرض الميعاد” بالنسبة للأمريكيين آنذاك، وقد تزوج العجوز من آبي، المرأة الشابة التي تصغره بالعمر ولكنها تقع في غرام ابن زوجته المتوفاة آبين، فيتورطا في العشق معاً وتقوم الزوجة الشابة بإقناع الشاب بإقامة علاقة سفاح معها والإنجاب منه، ولكن سرعان ما يكتشف الأب تلك الخيانة ويفتضح أمرهما بعدما ينجح بتمكين الهواجس في نفس الشاب، وهذا ما يدفع الشاب لمصارحة زوجة الأب بأنها لم تكن تحبه بل كانت تستخدمه وسيلةً لإنجاب طفلٍ ينافسه على الميراث ومنازعته حقه في حصة والدته من الرزق، ولكن زوجة الأب تكون قد وقعت في غرامه فعلاً، ولم يعد يهمّها ميراث زوجها العجوز، ولتثبت غرامها له تقوم بقتل طفلها الرضيع، فتلك الشهوة الجسدية التي بدأت بغية الميراث قد تحولت إلى حبٍ عاصفٍ أدى إلى اعتراف آبي بخيانتها لزوجها العجوز الذي انتحر في نهاية العرض بعد أن علم بالخيانة التي تعرض لها على يد زوجته وابنه.
محاولات فاشلة
بأحداثٍ مماثلة، أراد الكاتب والمخرج هشام كفارنة إعادة نص أونيل إلى الأذهان واستحضار النص الأصلي من خلال اقتباسه لفكرة النص والنول على منواله بنصٍ يوازيه ويتلاءم مع بنية المجتمع السوري تحت عنوان “بيت الشغف”، لكن العرض لم يكن على قدر نص أونيل، ولم يتفوق عليه برؤيةٍ جديدةٍ، ولا بطرحٍ مختلف، بالإضافة إلى ركاكة اللغة العربية التي كتب بها العرض وركاكة الفكرة من حيث اكتمالها وأسلوب طرحها لفكرة الإقطاع والتعامل معها بلينٍ ولطفٍ شديدين، ونجدُ ذلك في شخصية العجوز وإظهاره بمظهر الإقطاعي البريء من خلال الخطاب الذي ألقاه في بداية العرض وقد كان هادفاً لاستمالة العواطف نحوه وتبرير جميع أفعاله من حقد وأنانية، فلم يقدّم “بيت الشغف” أية حلولٍ من شأنها التخفيف من وطأة بعض السمات الإنسانية مثل الأنانية أو الخيانة، فإن كانت رائعة أونيل تحمل هذه الفكرة الأساسية إلا أنها – حين كتبت عام 1924 وعرضت كفيلم سينمائي عام 1958 – كانت تهدف إلى نبذ فكرة الإقطاع وما يولده الطمع من رذائل في المجتمعات الإنسانية، في حين أن “بيت الشغف” لم يتعرض للفكرة الأساسية بقدر ما جاء يحمل انعكاساً لصورةِ مجتمع أمريكي متهالكٍ في القرن الماضي؛ وهنا سنجدُ فرقاً كبيراً بين ما حاول تقديمه الأستاذ كفارنة وبين ما هو الحال في المجتمع السوري، فبالرغم من أن العمل يتحدث عن سمةٍ عامةٍ لجميع المجتمعات الإنسانية، إلا أنه كان المفترض أن يقوم العمل على إسقاطٍ واقعي يتناسب مع عرضٍ مسرحيٍ سوري، ويتناسب مع تغيرات المجتمعات منذ القرن الماضي إلى الآن، فليس من المنطق ألا يتفاعل العرض المسرحي مع التغييرات التي رافقت البشرية خلال مئة عام، في حين أن كلَّ شيء يتغيّر الآن.. وحتى الحب، والخيانة، والأنانية، لم تعد تأخذ ذات المفاهيم أو ذات الأشكال الكلاسيكية القديمة، ولم تعد تُرى من منظورٍ واحدٍ ثابتٍ بين الخطأ والصواب، لذلك وعلى الرغم من المحاولة التي قام بها المخرج والكاتب كفارنة، إلا أنه لم يستطع تجاوز الكلاسيكيات، ولم يتفوق “بيت الشغف” بأي طرحٍ جديد لظاهرةٍ قديمة جداً، بل ما قام بفعله هو تثبيت النظرة التقليدية لمفاهيمٍ متغيرة دائما.
أجواء وأدوار غير مقنعة
لا بد لنا أن نتطرق إلى “السينوغراف” بما فيه من إضاءة مسرحية وموسيقى تخصّ العرض، وهنا يزداد “بيت الشغف” سوءاً بفضل الإضاءة التي استخدمت بطريقة خاطئة من حيث إسقاط الضوء على أماكن فارغة فوق خشبة المسرح من شأنها تشتيت انتباه المشاهدين من جهة، ومن جهة أخرى إخفاء ملامح وجوه الممثلين وطمس أشكالهم إلى درجةٍ تجرح العين بفجاجتها وتجعلها تخطئ بين صوت الممثل وشكل الممثلة أحياناً، بالإضافة إلى صوت الموسيقى المرتفع جداً، والذي يطغى على أصوات الممثلين في أشدّ المشاهد حساسية. وعدا عن ذلك كله، عادة ما يتم النظر لأداء الممثلين في أي عرضٍ مسرحي – وهذا ما يزيد الطين بلة، كما يقال – لأن الأداء لم يكن على مستوى رائعة أونيل، لما يحمل من عدم اكتراث في التعامل مع المسرح فمثلاً، دور “طيف الأم المتوفاة”، الذي تجسده الممثلة أمانة والي، لم يكن هذا الدور كافياً لشرح معاناة الشاب وهواجسه الذي جسد دوره مجدي المقبل، كما أن الممثلة والي لم تؤدِ الدور بما لديها من إمكانيات عالية، إضافة إلى برود الإحساس في تجسيد الشخصية، أما الممثلة صفاء رقماني، والتي أخذت دور “العاشقة”، أخذت تفتعل المعاناة دون أي إقناعٍ بذلك، فنرى مشهداً لها تحاول البكاء فلم يكن بكاءً بقدر ما كان انفعالات وصراخا غير مبرر فوق خشبة المسرح، وللحظة سألت نفسي: ماذا تفعل الآن؟ إلى أن انتهى المشهد وأدركت حينها أنها حاولت أن تقول للجمهور “تأثروا.. إنني أبكي”. ولكن كما لكل قاعدة شواذ، فقد كانت شواذ هذه القاعدة في أداء الممثل يوسف المقبل، والذي امتلك الدور بكل ما لديه من مهارات فنية عالية، فقد استطاع تجسيد شخصية العجوز كما لم تجسد من قبل، بالإضافة إلى النطق السليم والتفاعل من اللغة العربية بلغة الجسد الخاصة لممثل بارعٍ مثله، ولكن القاعدة الأساسية كانت تقول أن بيت الشغف جاء مخيباً للآمال خاصة أنه نال تغطية صحافية وإذاعية أكبر من بيت الشغف نفسه.
لنكن منصفين
بالرغم من خيبة الأمل التي صدمنا بها الكاتب والمخرج كفارنة، إلا أنه في حقيقة الأمر حاول أن يصنع عرضاً بهياً وقادراً على إضافة شغف حقيقي للمسرح السوري، فمجرد التفكير في إعادة مسرحية أونيل من خلال “بيت الشغف” هو في حد ذاته تفوق وقدرة هائلة على التكيف مع الماضي وطرحه بحاضرٍ أفضل، وكما أن هنالك سلبيات هنالك إيجابيات أيضاً، ومنها تخفيف حدة المشاهد الجنسية الموجودة في نص أونيل وإيصال الشبق الجنسي بطريقة رمزية جداً، دون أن يقع العرض في الفخ الذي وقع فيه الفيلم المأخوذ عن المسرحية عام 1958. ولذلك يمكن القول إن المخرج كفارنة استطاع العبور مع طاقم العمل بحقل ألغام مليء بالفخاخ دون أن يصاب بيت الشغف بالأذى في مجتمع شرقي، كما أن العمل على عروض ومسرحيات سابقة من شأنه أن يرجع للمسرح العالمي بهجته في سورية، ويجعل الجمهور يسعى نحو الثقافة المسرحية التي تكاد أن تموت في أذهان الناس.
عصام عبود