زادَ العقل.. نقص الحظّ!!
عبد الكريم النّاعم
قال له: “في فترة الحبْس الكوروني، مثلي مثل آخرين من الذين رُزِقوا شيئاً من القراءة والمطالعة.. يوم أمس قرأتُ هذين البيتين من الشعر لأبي تمام الطّائي:
ينالُ الفتى من عيشِهِ وهوَ جاهلٌ/ ويُكدي الفتى في دهرهِ وهو عالِمُ
ولو كانت الأقسامُ تَجري على الحِجى/ هَلَكْنَ إذاً مِن جَهْلهنَّ البَهائمُ
لأقلْ بداية لمعظم أبناء هذا الجيل من أبناء الجامعات خاصة، إنّ معنى كدى يُكدي سأل واستعطى، ومنها الكُديَة المعروفة في كتب التراث.
توقّفتُ عند هذا المعنى الذي بيننا وبينه أكثر من ألف عام، حتى لكأنّ ثمّة قدَراً ما يصيب أهل الفهم، وخطر ببالي مقولة “أدركتْهُ حرفةُ الأدب”، أي التعنَتْ “أفطاسُه” كما يقولون في عاميتنا، فهلْ هذا قانون من تلك القوانين التي لانعرف شيئا عنها إلاّ بآثارها؟!
أجابه: “يُخيّل لي إنّ الأمر كما أشرتَ، لأنّه ينطبق على مساحة الأدب والفهم حيث وُجد إنسانهما. انظرْ، أيام زهو الحضارة العربيّة التحق معظم الشعراء بالبلاط، أو حيث يكون الوزير، أو الأمير، أو صاحب المنصب طلباً لشيء من العطاء، وفي أوروبا في القرون الوسطى كان الشعراء والأدباء يلوذون بأصحاب الإقطاع للغاية ذاتها، وفي عصورنا الحديثة ثمّة لَواذٌ ما، حيث يُتوقَّع تحصيل الرزق، بما يسدّ الكفاف، وربّما أقلّ، فقد تتبدّل بعض المفردات، ويبقى المضمون ذاته، في حدود، وهنا اسمح لي أن أستطرد فأروي كلمة للإمام عليّ (ع) فقد قال: “مَن زادَ عقلُهُ نَقَصَ حظّه”
قاطعه: “ها أنت تذهب إلى مقولة غير علميّة هي “الحظّ”!
أجابه: “من فضلك دعني أُكمل، وفي السياق أقول إنّ بعض الشركات الكبيرة في أوروبا، كما نُقل، حين تجري مسابقة لانتقاء موظفين فيها، فلديها حقل مفاده ما نسبة الحظّ في حياتك، وتأخذ بمدلولها، قبولا أو استبعادا، ممّا يؤكّد أنّ ثمة شيئا اسمه الحظّ، وفي حياتنا الكثير من المجريات التي تُحيل على مفاهيم لا تخضع للتجربة العلميّة المخبريّة، ممّا يؤكّد أنّ العلم على تقدّمه، وفساحة فضاءاته لم يُحطْ بكلّ شيء، ولا بدّ من الإشارة السريعة إلى أنّ مفهوم “الحظّ” يزدلف بدرجة كبيرة من مفهوم “القَدر”، وهذا بحث شائك، اسمح لي أن أعود بك بالذاكرة إلى طفولتنا، أتذكر (….)؟
أجابه: كيف لا أذكره، فهو يمتّ لنا بصلة قرابة؟!
تابع: “لقد كان أنيس المحضَر، جميل الحديث، حيث حلّ يترك أثرا حميدا من الفطنة والذكاء، وكان ذا صوت جميل، ويرتجل “العتابا” ارتجالا في أيّ موضوع يريده، وكان يعاني من فقر أسود، يحنّن قلب الكافر، وذات مرّة اشترى شيئا من الدكان، وغادر، فقال أحد الموجودين لصاحب الدكّان: “يا رجل، فهيم، وأنيس، ولكنّه يواجه فقرا ابن كلب”، فردّ عليه صاحب الدكّان مداعبا: “أنت كل عمرك مثل البهيمة، ماذا تريده أن يكون؟! الفهم رزق، وجمال الصوت رزق، والجاذبيّة رزق، هل تريد أن يجمع الله له كلّ هذا، ومعه الغنى”؟!
هل قرأتَ أنّ نبيّاً من الأنبياء كان غنيّاً؟! هل شاهدت عبقريّا غنيّاً؟! وإذا وُجد فهو شاذ مؤكِّد للقاعدة، اسألْ أيّ عاقل ممّن خُصّوا بالفهم والمعرفة، هل تبادل فهمك بملايين الملايين، تكون معك على أن تتخلّى عن فهمك ومعرفتك”؟!
قال له مداعبا: لكأنّك تعزّي نفسك، وأمثالك!!
أجابه: “لست بصدد تقديم أية تعزية، وإنّما أقول ما هو حقيقة واقعة، وكلامي هذا لا يعني بأية حالة الدّعوة للاستسلام للمقادير، والحظوظ، فهي جزء من الحياة وليست كلّ الحياة، بل لابدّ من التأكيد على الوفاء بمسؤوليّة الخلافة التي وضعها الله في رقبة أبينا آدم، حين جعله خليفة، فلا بدّ من التصدّي لكلّ أشكال الظلم، والطغيان، حيث وُجدا، ولا بد من الكفاح من أجل حياة كريمة تليق بكرامة ذلك الإنسان المستخلَف، لا أن نجلس وننتظر المقادير، وأعتقد أنّه حين تتحسّن أحوال (العامّة) ماديّاً، فسوف تتحسّن (الخاصّة) من أهل الإبداع والعقل..
aaalnaem@gmail.com