دراساتصحيفة البعث

التحول الاقتصادي الجديد في الصين

عناية ناصر

غالباً ما يُنظر إلى الصدمة الاقتصادية التي تسبّبها جائحة الفيروس التاجي على أنها لحظة محورية قد تؤدي إلى تحولات كبيرة في الاقتصادات السياسية في جميع أنحاء العالم. ولا شك أن أعمق تحوّل يحدث في الاقتصاد  الصيني هو الابتعاد عن إستراتيجية النمو التي تعتمد على التصدير، والتي تمّ تبنيها في التسعينات، إلى نموذج اقتصادي جديد قائم على الاستهلاك المحلي، وتطوير التكنولوجيا المحلية. بدأ التركيز على اعتماد أكبر على الذات اقتصادياً بعد عام 2010، ولكن الزخم الذي أوجده الوباء يؤكد على أن هذا التحوّل يتمّ تنفيذه بشكل أكثر حزماً وحسماً. شرح الرئيس الصيني شي جين بينغ هذا النموذج الجديد في المؤتمر الشعبي الوطني الذي اختتم أعماله قبل فترة بقوله: “في المستقبل، يجب أن نتعامل مع الطلب المحلي كنقطة انطلاق وموطئ قدم، بينما نقوم بتسريع بناء نظام استهلاك محلي كامل، ونعزّز بشكل كبير الابتكار في العلوم والتكنولوجيا ومجالات أخرى”.

بسبب الإغلاق الأولي للنشاط الاقتصادي والانخفاض التالي في الطلب العالمي على حدّ سواء، تسبّب الوباء بأضرار جسيمة للاقتصاد الصيني. حيث لا تزال الصادرات تمثّل 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للصين، ما يجعل من المستحيل حماية البلاد من الصدمات القادمة من خارج حدودها. ومع ذلك، ارتفع الاستهلاك المحلي وهو الآن المحرك الأهم للنمو. إن الانتقال إلى الاستهلاك المحلي كمحرك أساسي للنمو جارٍ بالفعل منذ ما يقرب من عقد من الزمان، وتسرّع جائحة الفيروس التاجي بسرعة هذا التوجه. إن الصدمات الاقتصادية التي أحدثها الوباء شلّت التجارة العالمية إلى حدّ أن الطلب الخارجي على الصادرات الصينية قد لا يتعافى قبل سنتين أو ثلاث سنوات. حرب التجارة والتكنولوجيا مع الولايات المتحدة، أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للصين، تخلق أيضاً مخاطر طويلة المدى، وقد أبرزت هذه العوامل توقعات لدى بعض القادة الصينيين بأن الاقتصاد العالمي سوف يتراجع وتتوقف العولمة.

السبيل للخروج من هذه المعضلة بالنسبة للاقتصاد الصيني المعتمد على التجارة هو البحث عن نموذج تنمية أكثر اكتفاءً ذاتياً لهذا العقد، لذلك تعكس السياسات الحكومية المعلنة مؤخراً هذا المسار. ولعلّ أبرزها حزمة تحفيز تركز على تطوير القدرات التكنولوجية الجديدة، والهدف هو استثمار ما يقدّر بنحو 1.4 تريليون دولار أمريكي على مدى ست سنوات للحصول على الاستقلال التكنولوجي عن الولايات المتحدة.
تدعم الحزمة نشر كل شيء من الشبكات اللاسلكية إلى مراكز البيانات الضخمة التي يمكنها تشغيل تقنيات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة للإنترنت، والتي تهدف إلى تحفيز الابتكارات في مجموعة من المجالات، بما في ذلك خطوط الجهد العالي للغاية والتكنولوجيا الحيوية والسكك الحديدية عالية السرعة والقيادة المستقلة والمدن الذكية.

من المتوقع أن يقود عمالقة التكنولوجيا الخاصة مثل Huawei – Alibaba – Tencent  – SenseTime  مبادرة البنية التحتية الجديدة هذه مع بعض المكاسب للشركات الأمريكية. على عكس الجهود السابقة -التي ركزت على البنية التحتية القديمة مثل الجسور والطرق السريعة- تهدف خطة البنية التحتية الرقمية الجديدة هذه إلى دعم الجهود الوطنية لتطوير أحدث التقنيات وتعزيز القدرة التنافسية العالمية. وهناك خطة أخرى تمّ طرحها في المؤتمر الشعبي الوطني الأخير، وهي أشبه بخطة السنوات السابقة، مع تركيز قويّ على البنية التحتية قديمة الطراز. يدعو مخطط بكين الجديد للتنمية “Go West” إلى زيادة الاستثمار في المقاطعات الوسطى والغربية، بما في ذلك قائمة طويلة من مشاريع الطاقة والبنية التحتية الجديدة، مثل السكك الحديدية في سيتشوان- التبت، ومرافق تخزين النفط والغاز تحت الأرض، والمشاريع الصناعية الجديدة. كما هي الحال مع خطة التكنولوجيا الرقمية، تهدف سياسة التنمية الجديدة إلى جعل الصين أكثر اعتماداً على الذات في التقنيات الأساسية وإنتاج الغذاء. وهكذا يمكن لهذه الإستراتيجية أن توفر التنمية الداخلية للمقاطعات الغربية، التي تقع في الطرف الشرقي من مبادرة الحزام والطريق، طرقاً لتوسيع روابط النقل مع أوروبا وجنوب شرق آسيا في بيئة محلية أكثر قابلية للتنبؤ بها.

إن جائحة الفيروس التاجي والتنافس المتزايد مع الولايات المتحدة يسرعان التغيّرات في الاقتصاد السياسي الصيني من خلال السعي لتحقيق اكتفاء ذاتي اقتصادي وتكنولوجي أكبر، بحيث يمكن لهذه التحولات أن تغيّر الاقتصاد السياسي العالمي بطرق عميقة. والتحركات المتسارعة نحو الاعتماد على مصادر الطلب والابتكار المحلية في الصين تنذرُ بمستقبل يمكن أن يصبح فيه نزع العولمة وتآكل العلاقات الاقتصادية أكثر وضوحاً، بحيث يمكن أن تؤدي هذه التحولات إلى تعديلات جوهرية في موقف الصين في سلاسل القيمة العالمية. وإذا نجح نموذج التنمية الجديد للحكومة الصينية، فيمكن للصين وبوصفها “مصنع العالم” أن تعمل بشكل أقل، لأنها سوق استهلاكية تعادل حجم القارة التي يحلم بها الاقتصاديون الغربيون منذ أكثر من 200 عام، لكن الهدف الرئيسي للنموذج الجديد هو تقليل نقاط الضعف الخارجية، لذلك إن ما يمكن أن يصبح حقاً “أكبر سوق على وجه الأرض” قد يجعل الغرب في وضع حرج.