عثمانية أردوغان الجديدة وصراعها ضد الأتاتوركية
ريا خوري
شهدت تركيا خلال فترة وجيزة تضخّماً وانفجاراً للعثمانية الجديدة، لم نرَ مثيلاً لها منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية ووصوله إلى السلطة. صحيح أن الحزب يصنّف نفسه بأنه حزب يسير على خط معتدل، غير معادٍ للغرب، ويتبنى رأسمالية السوق، ويعمل بكل ما لديه من إمكانيات للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، إلا أنه حزب له جذور وتوجّهات إسلاموية، ومنذ 21 أيار 2017 عندما ترأس أردوغان الحزب بدأ ينادي جهراً بالعثمانية الجديدة ويعمل على استعادتها.
في عام 1923 تمّ توقيع معاهدة لوزان بسويسرا، وتمّ بموجبها تسوية وضع الأناضول وتراقيا الشرقية الواقعة في القسم الأوروبي من تركيا الحالية في الدولة العثمانية، وذلك بإلغاء معاهدة (سيفر) التي وقعتها الدولة العثمانية كنتيجة لحرب الاستقلال التركية بين قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، والجمعية الوطنية العليا في تركيا، والتي كانت تُعرف بـ(الحركة القومية التركية) التي كان يقودها مصطفى كمال أتاتورك، هذه المعاهدة قادت إلى اعتراف دولي بجمهورية تركيا الحالية التي ورثت محلّ الإمبراطورية العثمانية، والتي تعتبرها جماعة حزب العدالة والتنمية وعلى رأسها طيب رجب أردوغان هزيمة لتركيا، كونها تخلّت عن الحدود التي تمّ رسمها لتركيا.
هذا يدعونا إلى النظر من جديد إلى تحويل “آيا صوفيا” مجدداً إلى مسجد، وهي الحدث الأبرز والمهمّ في المشهد العثماني في الأيام الأخيرة الماضية، كونها ترافقت مع عدد كبير من الخطوات والمواقف التي تبلورت وظهرت بشكل تدريجي في تركيا، وتصبّ في النهاية في الهدف الذي يسعى إليه أردوغان، من أجل إحياء الخلافة العثمانية تحت عنوان إحياء “الخلافة الإسلامية” التي بدأها السلطان سليم الأول حين هاجم بين عامي 1516 و1517 كلاً من بلاد الشام ومصر، ونشر الإنكشارية التي توسّعت حتى وصلت إلى شمال إفريقيا، والجزيرة العربية، معلناً هدفه الأبرز اكتساب الشرعية الدينية واستغلالها لمصلحة السلطان العثماني. ومع مرور الأيام كشفت هذه العملية الاستعمارية زيف فكرة الإيمان والدين التي تبجّح بها سلاطين العثمانية، حيث لم يؤدِ أي من السلاطين العثمانيين مناسك الحج ولم يذهب إلى الحج أيّ منهم على امتداد 400 سنة خلال فترة الاحتلال العثماني للوطن العربي.
وبعد هذا التاريخ الطويل نجد الآن أن الإعلام التركي بدأ بالإعلان عن الدعوة لما يُسمّى “الخلافة الإسلامية” كما ورد على غلاف مجلة (الحياة الحقيقية) التابعة لحزب العدالة والتنمية، وهذا تساوق مع محو أي أثر يتعلق بأتاتورك، ورفضاً لمعاهدة لوزان. والقصة لم تبدأ من هنا بل سبقها قرار تحويل آيا صوفيا إلى متحف، وهدم أكبر مركز ثقافي في قلب ساحة تقسيم في استانبول “مركز أتاتورك”. ومن أجل مسح كلّ ما يتعلق بأتاتورك بنوا مسجداً ضخماً بمآذن فخمة عالية في الساحة نفسها بالقرب من نصب العلمانية وحرب التحرير الوطنية حتى بات النصب غائباً لا يرى. كما تمّ بناء مطار آخر بديلاً عن مطار أتاتورك الدولي في استانبول، وحالياً يعمل حزب العدالة والتنمية في الطرف الشمالي الغربي من ساحة تقسيم في استانبول على إعادة بناء ثكنة المدفع العثمانية الكبيرة التي كانت في السنوات الماضية في حديقة “جيزي” التي تسبَّب الشروع في قطع أشجارها الكبيرة بانتفاضة “جيزي” العارمة عام 2013. كذلك من أجل تحقيق مشروع العثمانية الجديدة أعلن أردوغان غير مرة عن تغيير الأبجدية الذي لا لزوم له، لأن الأبجدية ليست شرطاً للتقدم والتطور، كل هذا يعتبر تمهيداً لتحضير الصورة الجديدة، صورة العثماني أردوغان بدلاً من أتاتورك!.
فنون اللعب السياسي تلك من أجل إحياء الخلافة لم تكن لتمرّ لو كان النظام التركي علمانياً ومدنياً حقيقياً، وما يراه العالم اليوم يثبت مدى خطورة هذا النهج على العالم، وتحديداً الدول العربية التي تشهد تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية مثل سورية والعراق والخليج وليبيا وتونس.. إلخ. هذا الخطر الداهم نسمع ناقوسه الذي يُقرع من اسطنبول التي يريد أردوغان نقل العاصمة إليها لتكون مقرّ الباب العالي والمنصة التي تنطلق منها الجيوش الإنكشارية ضد الوطن العربي، وربما أبعد من ذلك.