اللغة كائن اجتماعي
محمد راتب الحلاق
عندما تكون البيئة غنية بالأشياء والأحداث والصناعات والمنتجات، وعندما يكون العلم والبحث العلمي والفكر والفلسفة في حالة متقدمة ومزدهرة، وعندما يكون المجتمع الذي يتكلم اللغة في حالة استقرار تحكمه مؤسسات مدنية متطورة تقودها سياسة واضحة، فإن ذلك كله يؤدي إلى ازدهار اللغة، وإلى زيادة قدرتها على التعبير، بل وإلى ابتكار أنماط من الأساليب الجديدة في التعبير، وإلى الغنى في المفردات، فاختراع آلة جديدة سيستتبع بالضرورة إيجاد اسم لها ولأجزائها ولمنتجاتها، كما يستتبع بالضرورة، كذلك، أنماطاً من السلوك الجديد للتعامل معها ومع منتجاتها، وابتكار أنماط من القول والأساليب لم تكن معروفة من قبل، بل ويستتبع نشوء أنماط من القيم الأخلاقية والاجتماعية لم تكن موجودة من قبل… وهذا الأمر مستمر لا يتوقف إلا بتوقف المجتمع عن الابتكار والإنتاج.
ووضع اسم للآلة المبتكرة أو للفكرة الجديدة يشبه تماماً عملية وضع اللغة ابتداءً، فعملية وضع اللغة مستمرة لا تتوقف إلا بتوقف من يتكلمها عن التقدم، ولا قيمة من ثم لكلام من يقول إن اللغة العربية باتت متخمة بالألفاظ والمصطلحات الأجنبية، فالأمر يعود إلى ضعفنا وتخلفنا في ميادين العلوم والصناعات والإنتاج والآداب ولا يعود إلى ضعف وتخلف اللغة العربية. ومن الطبيعي أن يقوم من يستورد النظريات العلمية والفكرية والفنية والتقنية والسلع باستيراد أسمائها ومصطلحاتها وأنماط السلوك التي ترافقها، وقوالب التعبير الخاصة بها….، بل ويستورد، مضطراً، أنماطاً من القيم الأخلاقية والعلاقات الاجتماعية لم يكن يعرفها من قبل، مع ما في ذلك من خطورة على هوية المجتمع وليس على اللغة فقط.
ولو كنا نحن المنتجين الأوائل للسلع والنظريات العلمية والفنية والأدبية كانت لغتنا العربية هي التي تغزو اللغات الأخرى. وبناءً على ما سبق أرى أن قول الدكتور محمد عابد الجابري بأن العرب مازالوا يتكلمون لغة الأعرابي قول يتجاهل الأسباب الحقيقية، فالمشكلة في المجتمع المتخلف وليس في اللغة.
وحين يتعلق الأمر بالنص الأدبي عموماً والنص الشعري خصوصاً، فإن اللغة تغدو المادة الخام التي تصنع منها (وبها وفيها) النصوص، ولا تعود مجرد أداة توصيل نفعية وحيادية، كما في حالة النصوص غير الأدبية، كالنصوص العلمية والقانونية وإلى حد ما النصوص الفلسفية، حيث يحرص منتج النص على الدقة والوضوح وتجنب الانزياحات، في محاولة منه لنقل معنى واحد ووحيد لجميع القراء دون السماح بالتأويلات وتعدد القراءات، وحسب محمد الجرجاني (صاحب كتاب التعريفات) فإن هذا النوع من النصوص هو الذي ينطبق عليه حد النص الذي لا اجتهاد معه، حيث يقول: (النص ما لا يحتمل إلا معنى واحداً، وقيل ما لا يحتمل التأويل). نقيض النص الأدبي، وهو حمال أوجه بطبيعته، والذي يعد اللغة المادة الخام القابلة للتشكيل الجمالي الذي يقترحه عليها منتح النص، أي إنها لا تقل أهمية عن المعنى الذي ندبت لحمله، فيعمد منتج النص إلى فرض شكل التعبير عليها، بقصد إثارة إعجاب القارئ ودهشته، والاستيلاء على وجدانه، وغالباً ما يكون ذلك هدفاً بحد ذاته، بل غالباً ما يكون ذلك هو الهاجس الذي يؤرق منتج النص وليس مجرد الإعلام أو التأريخ أو البرهان.
خلاصة القول: إن العيب في تخلف المجتمع الذي يتكلم اللغة وليس قي اللغة، ولاسيما حين تكون اللغة ذات تاريخ عريق، وذات قابلية هائلة للتطور والتجدد بما تملكه من خصائص كاللغة العربية.