ضدّ المؤتلف
د. نضال الصالح
في الدراسة الأولى من الدراسات الخمس لعالم اللسانيات الروسي “رومان ياكوبسون” في كتابه “قضايا الشعرية” يتساءل ياكوبسون: “ما الشعر؟”، ثمّ يتابع قائلاً: “ينبغي لنا إذا ما أردنا تحديد هذا المفهوم أن نعارضه بما ليس شعراً”، ثمّ يقرّر: “إلا أنّ تعيين ما ليس شعراً ليس بالأمر السهل”، ويضيف بعد صفحات ممّا سبق: “إنّ الحدّ الذي يفصل الأثر الشعريّ عن كلّ ما ليس أثراً شعرياً هو أقلّ استقراراً من الحدود الإدارية للصين”.
أجل، ما مِن تعريف جامع مانع للشعر، بل إنّ أيّ محاولة لتعريفه تعني تضييق الخناق على النص الذي ينتسب إليه، أو الكتابة التي تطمح إلى الانتساب إليه، وذلك هو ما تقوله مجموعة الشاعر مزعل المزعل: “كلّ مَن عليها خان” التي ما إنْ يأتي القارئ على نقطة النهاية من آخر نصّ فيها، حتى يجد نفسه وهو يتساءل كما تساءل “ياكوبسون”: “ما الشعر؟”، ثمّ ينتهي إلى أنّ أي محاولة لتجنيس هذه النصوص في حقل الشعر محكومة بالعجز لأنّ النصوص جميعاً تتمرد على المتواتر والمستقر في النقد الأدبي من تعريفات للشعر منذ نشأته إلى الآن، ولأنّها، جميعاً أيضاً، تبتكر فضاءها النقديّ الخاص بها من جهة، وشعريّتها الخاصّة بها من جهة ثانية، وتوصد أبواب مجازها في وجه كلّ مَن يتوهّم أنّ الشعر هو ذاك الذي أدمنته الذائقة الجمعية المكوَّنة (بفتح الواو وتشديدها) بتحولاته ومغامراته المختلفة منذ تعريف قدامة بن جعفر للشعر إلى شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر من جهة ثالثة.
تصدّرت المجموعة مقدمة للدكتور سلام سليمان ممتلئة، على الرغم من قصرها، بغير إشارة إلى بصيرة نقدية عالية، ومن تلك الإشارات التقاطها الجوهريّ القاسم المشترك بين الحمولات الدلالية للنصوص، ولاسيما ما يجعل الواقع حولنا مثخناً بأنصاف الأشياء، نصف الحياة ونصف الموت ونصف الخيبة ونصف والأمل.. ومنها أيضاً تلك النتيجة التي خلص سليمان إليها، أي وصفه للشاعر بأنه شاعر استثنائي يشقّ المعنى الموروث، ولا يُشقّ له غبار. وتنتهي، أي المجموعة، بكلمة على غلافها الأخير للأستاذ زكريا كردي، دالّة على عمق فكريّ باهر في قراءة النصوص، ومن ذلك سعي الشاعر، بإرادة لا تلين وعبر لغة تناوئ نفسها، إلى الإمساك بضوء مهما يكن ناحلاً في نهاية النفق الذي يحكم العالم حولنا، والذي يبدو مرهقاً بألف ظُلمة وآلاف من عبيدها العاضّين بأنيابهم على أرصدتهم منها، والملوّثين بشهواتهم المحمومة لامتلاك هذا العالم.
وبعد، فإنّ أهمية ما أنجز الشاعر يتجاوز كونه كتابة تعيد الاعتبار إلى الإبداع بوصفه إبداعاً قبل أن يكون محدوداً بقوانين وقواعد، كتابة تغاير المتشابه والمؤتلف، وتبدع مختلفها الخاصّ بها. كتابة ضدّ نفسها لتنتج نصّها المغاير، والمفارق، والمتمرد على الثابت والمستقرّ، وهي قبل ذلك وبعده كتابة تصدح بشعريّة تميزها من سواها ممّا يدعي نسبته إلى الشعر، كتابة تناوئ العالم حولها، وتشاكسه، وتهشم مراياه الميتة لتنجز مرآة الكتابة المضادة لبلادة هذا العالم، وصدئه، وضراوته، وسقوطه في قاع النشاز.