على رؤوس الأصابع!؟
د. نهلة عيسى
أدخل بيتي على رؤوس أصابعي بعد سفر طويل موجع، خوفاً من أن أوقظ الجدران من غفوة تعب انتظاري، وأتجنب النظر خجلاً إلى أشيائي، كتبي، لوحاتي، كنبتي الأثيرة، مخدتي، فنجان قهوتي، وعلبة سجائري البيتية، وصور أبي وأمي التي أظنها حانقة (كعادة الأهل) من أنني لم أكلف نفسي عناء الاتصال أنني ربما تأخرت!؟
أدخل بيتي على رؤوس أصابعي، وخلفي حقائبي الكثيرة التي كانت محملة بالهدايا إلى أطفال عادت إليهم في أيام ماضية، ربما منذ شهر، منذ عام، عامين، ثلاثة، أربعة، ستة، تسعة، جثامين آبائهم “عيديات” فقد، وصور مكللة بالسواد، وأعياد كثيرة قادمة يقضونها في زيارة المقابر، يطاردون فيها ظلال الرجال الذين كانوا آباء، وباتوا مجرد ذكريات، وبضعة حجارة وشاهدة لا تمنح الطفل من أبيه سوى اسمه!!.
أدخل وحقائبي محملة بكل ما جمعته في رحلتي من مرارة، فأتوهّم أني إن مسحتها ووضبتها ستختفي المرارة، فيهاجمني البكاء، ويتحول رأسي إلى كرة لهب، فتصرخ بي الحقائب: لماذا تبكين؟ متى ستكفين عن تحويل كل الأشياء التي تحدث في الكون إلى قضية شخصية؟ ولماذا تظنين يا غبية، أن بإمكانك غسل تاريخ التسع سنوات الحزينة عن جلد الوطن.. بهدية!؟
واجمة، شاعرة بذنب لا أعرف ما هو، أتوقف عن البكاء، وأرد على حقائبي: هيا حاسبيني، هل تريدين أن أقدم لك مبررات أفعالي؟ وأن أحدثك عن قصة حياتي؟ كيف ولماذا ومتى تحولت أيامي إلى دكان خردة، ومتحف متناقضات، فيه البسط والسجاد وجلود الخرفان، وقصص أبو زيد الهلالي جنباً إلى جنب مع قصص سجن التوبة والأميرة ديانا وترامب، ومن كانوا أصدقائي وصاروا بعد ليلة خصومي!؟ هل تريدين أن تعرفي لماذا أحمل الهدايا إلى من فقدوا الأب.. أهم هدايا الرب!؟ أحمل الهدايا رسالة اعتذار للصغار أننا رغم كل أكاذيبنا عن البلد الواحد الجميل، المحمي من الرب، عندما وقعت الواقعة، تركنا آباءهم وحدهم يواجهون القبح، وجلسنا خلفنا شاشات جوالاتنا نقود المعارك بالكراهية والغل، ثم نحاسبهم على الموت، ونحملهم كل الخطايا!
أرد على حقائبي بانفعال شبيه بالجنون: منذ تسع وأنا أرتدي قناع القوة، وفي الخارج الذئاب تتلطى بالظلمة، وبيننا وبين النهار حائط من الوجوم، والقلب في شراك الخوف على الوطن، مثل فراشة، وماء القهر يفيض في بئري، والمنادي ينادي: أماءٌ هذا أم دمٌ؟ والوجوه جدار، آه ما أقسى الانتظار حين يكون السؤال: نكون أو لا نكون، بينما الأصوات في الوطن تهلل للعدم، والصوت بات صوتين، ثلاثة، أربعة، مئة صوت وصوت، وركام الذكريات عن بلد كان جميلاً يتعالى، والأصوات تزداد زخماً، وتتدحرج مستفسرة: أي قبح غطيتم بي أيها الكفرة؟ فتغمغم الجدران المتهاوية في البلد الذي كان جميلاً: مات الذين يجيبون، فعانقي مثلنا الأرض، علها تغفر لك الجرم، فالتاريخ لا يرحم المغفلين!؟
تسع سنوات، وصوت الغدر يتابعني أينما سرت، فأرفع صوتي ليطغى على صوت العدم: لماذا إذا ما تهيأنا للنوم غافلنا صوت الموت، ولماذا صار صوت اليمام والحمام.. كعوب بنادق، وقنابل تسقط في كل آن، وعمامات على شاشة التلفاز تتصارع أمام عيني الباحثة عن جواب عما يحدث للبلد: إن كان القرآن مخلوقاً أم أزلياً!؟ وخفقات قلبي تتصاعد غضباً وتسألني: يسألون عن القرآن ويتناسون الدماء!؟ كم باسم الرب هناك لصوص وأدعياء، توجوا العدم مقاماً لنبي، وجعلوا من أنفسهم خداماً للمقام!؟
تسع سنوات على رؤوس أصابعي، أهرب من الموت إلى الموت، على أمل أن أرى يوماً، الخيل البرية تتنفس الانتصار، وساحة الأمويين، ساحة عزم، وبيارة ولاء، والوطن غارا فوق الرؤوس، والفم لم يمتثل للجام، ومن قتلوا الآباء ويجوعون عائلاتهم، وقد تحولوا إلى سلاحف على الأرض، إلى ركام، نضعه في زوايا المتاحف المفتوحة.. تماثيل عار، يزورها الأبناء في الأعياد ليغفروا لنا ما فعل السفهاء منا، ولأغلق الحقائب وأكف عن الوجع.